خالد بن سعد الشنفري
كان لموسم الخريف في صلالة في الستينيات من القرن الماضي، بركات ولطف من الله للتخفيف عليها من بعض مما تكالبت عليها من أحزان صلالة، التي يحتضن ثراها قبور وأضرحة العديد من أنبياء الله وأوليائه والصالحين واختيار السلاطين.
أحزان لم تتجمع في منطقة كما تجمعت في صلالة في ذلك العقد من الزمن، وأقصد بصلالة هنا الرقعة الجغرافية الممتدة من عوقد غربا إلى الدهاريز شرقا، أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها مسمى "صلالة الكبرى"، حاضرة ظفار؛ حيث طوقت هذه الرقعة في ذلك العقد بشبك أو سور حديدي من البحر إلى البحر وتحولت لشبه سجن كبير لمن في داخله.
لم نحظ بخريف مماثل في عقودنا اللاحقة والأخيرة أمثال خريف ذلك العقد، فالشمس نادرًا ما كانت تشرق طوال 3 أشهر من كل عام على الأقل، أو أكثر، وتلبد الغيوم كان يشعرنا نحن الأطفال بنوع من السرور والبهجة الغامرة وإن كانت لا تخلو من بعض الهيبة والرهبة من عظمة وقدرة الخالق.
كنّا صغارًا نجمع شتلات الطماطم الصغيرة من أرض بساتين النارجيل حول بيوت الحافة التي تنمو دون تدخل من أحد في خريف تلك الفترة، وبدورنا نفسلها في "تنك" أو عُلب الزيت الفارغة القديمة بعد قصها من جهة واحدة ووضع الطين بها لبيعها بعد ذلك للمزارعين بمبالغ زهيدة نراها ثروة! وكان يكثر تواجد أنواع كثيرة ومتنوعة من العصافير والطيور تتوارد على مزارع صلالة وأشجارها الكثيفة كالقبره (باقرينوع) الذي كنا نحتفي به بأهزوجة نرددها قائلين:
باقرينوع نافش جمته
بعد غدوه عرس عمته
فننصب نحن الصغار لها ما يسمى القبة الخشبية من سيقان أغصان (جزوم) النارجيل الجافة تحت الأشجار ووضع بعض من الحبوب وسطها أو نصطادها بالأقواس كالتي يتصيد بها أطفال الحجارة الفلسطينيون الجنود الإسرائيليين؛ حيث اكتشفوا فيهم طبع الطيور المهاجرة المؤذية كالغراب الجديد المؤذي الذي غزانا في صلالة مؤخرا مع الكثير من الغزاة غير المرحب بهم أشباهه.
كان بحر العرب الهادرة أمواجه في الخريف وكأنها تقول ابتعدوا عني في هذا الموسم، فنشطر وجوهنا نحو الشمال إلى السهل لنتركه يرتاح منا قليلًا، ويزأر ويزمجر أمواجه، تلك الزمجرة التي كنا ننام كل يوم على سيمفونية ارتطامها بالشاطئ؛ ليعود لتجديد عطائه بعد الخريف.
نزهتنا اليومية كانت مشيًا على الأقدام إلى دعن الحافة خلف مزارعها؛ حيث كان نمو العشب كثيف مثل أتين حاليًا، الواقع تحت الجبل مباشرة، وأفضل أحيانًا منه، فيتقاطر الناس بين الظهر والعصر أفرادًا وعائلات وجماعات، كلٌ يتخذ له موقعًا للاستمتاع بمناظر الأخضرار والحياة أو اللعب وحتى الأهازيج والأناشيد، مستمتعين بأجواء الخريف والمناظر الخلابة الواسعة المصاحبة له، وإن كنّا نرى الشبك المسور عليها أمامنا بأمِّ أعيننا ودورياته الراجلة والمحمولة؛ ليعود الجميع بعد ذلك إلى بيوتهم قبل الغروب.. ومن أراد منا نحن الصغار والشباب أن يرجع مشيًا أو رجزًا خلف رقصة المدار وطبوله!
كان هذا الجو الخريفي يفتح الشهية للأكل، كما تشعر به بعد قضائك سويعات على البحر سباحة أو لعبًا على الشاطئ (وإن كنت لا أعرف رابطًا بين الحالتين والشعور بالشهية معهما إلا طيب هوائهما وعليله).
الخريف يأتي بخيره معه على مزارع صلالة عمومًا، فتكثر وتتنوع الثمار في المزارع حتى تتساقط على الأرض، يقول تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، كما يأتي بحر العرب بعده مباشرة بخيراته هو الآخر في موسم "الصرب"؛ موسم البحر والضواغي والسردين (العيد) وصيد التكوابه، فيزداد فيهما ويعم الخير ويجد الجميع ما يملأ بطونهم لتشبع شهيتها.
يأتي سكان الجبل بخيراته في الخريف كالسمن البلدي و"القطميم" قبل أن يُغلى ليصبح سمنًا، وهو تؤام عصيدة المسيبلي (الدخن)، والفطر الجبلي (قمبا)، والخيار الجبلي المحلي (حشواء)، واللوبيا الحمراء (الدجر)، وغيرها مما يأتي من الجبل بكثرة في فصل الخريف وما بعده من موسم الصرب.
إن منظر الحطب الذي يتخصص بعض أهل الجبل بقصه وتهذيبه بأطوال شبه متساوية بأدوات بسيطة كالساطور الكبير (الجزرة) ويُحمل على الجَمَل على شكل هرم صغير على ظهره، وتتمخطر هذه الجمال بحمولتها نازلة من الجبل مخترقة السهل إلى صلالة في منظر بديع؛ لتستقر في سوق الحافة (الماركيت) للعرض والبيع، ويمكن تشبيه تجمعها اليوم بتجمع سيارات بيع أسطوانات الغاز التي أصبحت بديلًا عن الحطب. واذا أردتَ شراء حمولة الجمل كاملة ما عليك سوى أن تتفق مع صاحبها فيأتيك وينوخ جمله أمام بيتك، (فلا طلبات أون لاين بطبيعة الحال).
كان منظر نزول الجِمال من الجبل محمّلة بحشائش الخريف أيضَا لا يقل روعة وإبداعًا؛ حيث يصبح طول هذه الحشائش بنهاية الخريف بطول قصب السكر، وتكاد تلامس الأرض عند مؤخرة الجمل.
إنها مناظر حُرمنا منها، ولم نعد نراها إلا بعدما تجدد الأمل مع انتشار مشاهد الشباب والفرق الأهلية التطوعية في أكثر من موقع في الجبل، ينثرون بذور حشائش الرودس الأسباني؛ هذه الحشائش التي تم اختبارها علميًا وعمليًا لتجانسها مع الحشائش المستوطنة في جبال وسهول ظفار، وقد تشكلت هذه الفرق الأهلية التطوعية بعد تشكيل فريق متكامل بقرار من معالي السيد وزير الدولة ومحافظة ظفار، مشكورًا برئاسة سعادة رئيس بلدية ظفار، وبمشاركة جهات علمية وفنية حكومية وأهلية عديدة، وانطلقت هذه الفرق الشبابية تنثُر البذور، ومعها تنثر الحب والوفاء لهذه التربة الطيبة التي أعطتنا الكثير، وجاء دورنا لرد الجميل لها، ونورثها للأجيال، كما استلمناها من الأجداد، خصوصًا في ظل غزو التصحر والآفات عليها تدريجيًا.
إنه لمنظر يُبهج النفس لهذه الفرق تعمل تطوعًا بالتعاون الفني مع جهة مختصة مثل بلدية ظفار، وما يُبهج أكثر ما عرفناه أن نثر هذه البذور ونمو حشائشها الكثيفة لتغطية كل الفراغ في الأرض، سيقضي على نبتة الباراثنيوم الخطيرة والخبيثة الدخيلة عليناـ والتي بدأت تغزونا بدورها بسرعة شديدة، مخلفة أخطارًا وأضرارًا كبيرة؛ لسرعة انتشارها، بينما لا تفيد حيوانًا للاقتات منها، ولا بشرًا يسره النظر إليها.
لم يكن لدينا التنوع الكبير الحاصل اليوم في المواد الغذائية، لكن الموجود فيه اللذة والبركة يكفيك ويشبعك المتوفر منه، ويتربع على قائمة طعام مطابخنا آنذاك العصيدة بالقطميم أو بالسمن البلدي مع لخم القرش الصغير حجمًا أو (ربيس اللخم المطبوخ) أو قطعة سمك مشوي أو عيد الضاغية (السردين) المرشوحة في التنور أو المعجين أو مرق كزاب النارجيل (صالونة) بالسمك مع الأرز المضروب بالسمن أو كعك (المسيبلي) الدخن أو الجريش والفندال المقصقص والمشوي والمطبوخ مع الشاهي الملبن والمنشب والسخانة والتحلية بخبيصة الفندال أو قشاط النارجيل اللين أو الحلوى الظفارية أو حلوى القالب العدنية أو التمر.
من خَلَقَ الخلق تكفل برزقهم، وما علينا سوى طاعته وحق عبادته وأن نسعى في مناكب الأرض كما أمرنا.