سعيدة البرعمية
أرسل لها أهلها يشكون الحال وارتفاع غلاء المعيشة، فأرسلت لهم راتبها وألغت حجزها بالطائرة، وحجزت تذكرة للسفر برًا. دخلت الباص قلقة مضطربة، جلست والتفتت يمنة ويسرى علّها ترى من تعرفه، لكنها وجوه لم تألفها، وضعت يدها على خدها، وأخذت الأفكار المُزعجة تختطفها، اكتمل العدد وانطلق السائق، أمسكت جوالها وفتحت على برنامج Word وأخذت تكتب "من صلالة إلى عبري، على ذلك الطريق الشبح، ها أنا أعبر، لا أعلم إن كنت سأصل إلى بلدتي "هجيرمات" سالمة أم أنني على موعد مع قدري، لم أشعر بمتعة السفر بالرغم من رغبتي الملحّة في رؤية ابنتي التي أقصاني عنها عملي، وأكملت عامها الأول دون أن أراها تكبر أمامي، لا أعلم كيف ستكون رحلتي.
يا إلهي ألا يكفي أنني أسافر يوميًا بالحافلة من صلالة إلى "مدرسة شرشتي" والمُعاناة مع الطريق الالتوائي الصاعد النازل ثلاث سنوات على التوالي؟!
لطفاً بحالي..
سئمت ارتياد الطرقات المخيفة، سئمت الغربة والسفر، هل أنا مُعلمة عُمانية حقا؟!
أشتاق لضحكتي، متى سأعطي الطلاب درساً دون اختلاج أو جزع؟ أتوق شوقاً لقرار وزاري ينقلني لـ"هجيرمات" أو أيّ بلدة في عبري، أتمنى أن أقول: وداعا شرشتي".
تتابع الكتابة.. "حكت لي زميلتي في السكن، عن قريبتها التي تدرّس في منطقة نائية وتسكن في سكن يفتقر للنظافة والخدمات، كما إنه غير آمن، ويسكن بالقرب منه عمَّال تابعون لإحدى الشركات، حدّثتني عن معاناتها والمضايقات والسرقة التي تتعرض لها من قبل العمال، أثناء ذهابها وإيابها للمنزل. وحكت لي مُعلمة أخرى عن معاناتها في أن راتبها يذهب أغلبه إلى السكن والفواتير ولسيارات الأجرة، ولسائق الباص في رحلتها اليومية للمدرسة التي تبعد كثيرًا عن المدينة؛ فهو يأخذ منها سبعين ريالاً نهاية كل شهر، كما أنها تتأخر عن المدرسة؛ لبعدها الشديد عن المدينة، فتتأخر وزميلاتها في تسجيل حضورهن عن طريق البصمة، كما حكت لي أخرى عن مشكلتها مع تذاكر السفر ومع المديرة والبصمة، حيث إنها قد تضطر للسفر عند أهلها عدة مرات في الشهر وتتأخر أحياناً، لأسباب خارجة عند إرادتها، فتقع في مشاكل مع إدارة المدرسة، ومن جانب آخر تفاجأ أنّ راتبها ذهب أغلبه لشركة الطيران؛ فالمديرية لا تعطِ المعلم أكثر من تذكرة واحدة خلال العام الدراسي.
لم لا يكون للمُعلمات المغتربات أسبوع إجازة من كلّ شهر، لقضائه عند أهلن ورفع البصمة عنهن في تلك المدة؟
لم لا تصدر قرارات منصفة للمعلمات المغتربات، لماذا ينتظرون من المعلم أن يكون جزيل العطاء ويعملون على تجاهل أبسط حقوقه؟!
سمعت صوت امرأة تئن وتتألم على المقعد خلفها التفتت لها قائلة: سلامتك ما بك؟
- الله يسلمك، أنا مُعلمة، قررت أن أذهب لقضاء الإجازة عند الأهل، وبسبب وضعي الصحي منعتني الدكتورة من السفر بالطائرة، والآن أشعر وكأنني على أعتاب ولادة مُبكرة، أرجوك كيف أتصرّف؟
- حقاً ما تقولين؟
- نعم
ما كان منها إلى أن أخرجت من حقيبتها ورقة، كتبت فيها للسائق عبارة "على متن هذه الحافلة امرأة، على وشك ولادة، فكيف يمكننا التصرّف؟"
طوت الورقة وأعطتها الشخص الذي أمامها قائلة: "اعطِ الذي أمامك، لتصل بسرعة للسائق".
وصلت الورقة للسائق؛ فإذا به يطلع عن طوره، نظر خلفه وقال بأعلى صوته أين هي؟
الركاب في حالة استغراب: من هي؟ عن ماذا تسأل؟!
فهم السائق أنَّ الموضوع محرج وأنّ عليه أنْ يتصرف، نزل من الباص واتصل بسلاح الجو السُّلطاني العُماني وأخبرهم بمشكلته وحدد لهم الموقع وانتظر وصولهم، أتت الطائرة بعد ساعة مزودة بطاقم طبي ونقلوا المعلمة.
وواصل السائق طريقه ورجعت هي لصفحتها تكتب "وهذي مُعلمة أخرى، في هذه الرحلة، تتعرض لأولى مراحل المخاض على متن باص نقليات، لولا أن منّ الله عليها بالستر، لولدت هُنا، على مرأى ومسمع من الجميع، وقد تتعرض لمشاكل صحية وتفقد حياتها أو حياة طفلها.
يا إلهي، وماذا عنّي أنا؟
متى ستنتهي رحلتي الطويلة؟
فجأة ظهرت أمام السائق شاحنة محملة بالبضائع، تترنّح من يمين الطريق إلى يساره، كسكّير مُسرف، فقد سائقها السيطرة عليها، علت الأصوات وأصيب الركاب بنوبات الهلع والذعر، اصطدمت بالحافلة وانقلبت مرتين، تشبّثت بهاتفها كي لا يسقط منها، لكنها فقدت الوعي وسقط إلى جوارها، فارقت بعض الأرواح أجسادها، استعادت وعيها بعد وقت مضى، تناولت هاتفها وأخذت تكتب "وهذه أنا قد لقيت هنا مصرعي، أكتب على آخر رمق، ما تبقى من يومياتي، وداعاً شرشتي، وداعًا يا ابنتي وصيتي لك، لا تقبلي أيّ وظيفة تغتربين بسببها". جاءت سيارات الإسعاف بعد ساعات من الانتظار وأخذوا يسعفون المصابين.
اقترب منها أحدهم، أعطته هاتفها قائلة: لا فائدة من إنقاذي فقط أوصل يومياتي، ليقرأها الجميع وصعدت روحها أثناء حملها.