علي بن مسعود المعشني
منذ بدء الخليقة والصراع مُحتدم بين الخير والشر، والهدى والضلال، والصلاح والفساد، وغيرها من الأضداد التي تُمثل في النهاية سر الصراع من أجل السيادة والنفوذ والبقاء في الحياة.. لهذا كانت دول الأيام وتناوب الأقوام بحكم صولات وجولات الصراع وزمانه ومكانه فقيل لكل زمان دولة ورجال. وما يدور في العزيزة تونس حاليًا لا يخرج عن سياق التدافع بين الخير والشر، ودول الأيام، وإن أخذت مُسميات حديثة كدولة المؤسسات والقانون أو مسميات هلامية ألحن كـ"الإسلام هو الحل" و"العدالة والحرية والتنمية"... إلخ.
ما يحدث في تونس اليوم لا يتعلق بتونس وحدها؛ فتونس ليست كيانًا جغرافيًا على كوكب المريخ؛ بل قطعة عزيزة اقتُطعت من جغرافية الوطن العربي الكبير في غفلة تاريخية وخطيئة كبرى سُميت باتفاقية "سايكس- بيكو"، والتي جعلت من تونس قُطرًا عربيًا كبقية أقطار الأمة؛ ليقوم قسرًا بدور وظيفي ظاهره رحمة وباطنه عذاب.
فالدولة العربية القُطرية اليوم والتي أنتجتها وتراقب خطاها "سايكس بيكو" وورثتها تتحدث العربية، لكنها تعمل ضد العروبة بلا وعي، وتقع في جغرافية الوطن العربي، ولكنها تتنفس من هواء الغرب، وتأسف وتتألم للشتات والتمزق العربي، لكنها تسعى بلا وعي لتكريسهما؛ لأنها دولة اُستنبتت من ثقافة "سايكس بيكو" التمزيقية والتي تحمل جميع الأضداد بداخلها.
الدولة القُطرية العربية ومنذ عهود الاستقلال، كانت أمام خيارين ونموذجين لا ثالث لهما؛ إما أن تكون وتمارس دور الكيان المُستقل عن الأمة وتختزل الأمة في ذاتها وتتعاطى مع ثوابت الأمة بعاطفة وتضخم الذات، فتعيش دولة "سوبر ماركت" لها مظهر الدولة من علم وعملة ونشيد وطني، لكنها لا تمتلك ذرة من كيان الدولة أو كرامتها. أو أن تكون قُطرًا في كيان عربي كبير يلتمس الثوابت الكبرى للأمة من عروبة وتاريخ ومصير، فتدفع الثمن حصارات ومؤامرات وأزمات لا تنتهي.
أغلبُ الأقطار العربية للأسف الشديد ارتضت أن تكون دولَ "سوبر ماركت"، اعتقادًا منها أن ذلك النهج يجلب لها الاستقرار والاستمرار والنمو، بلا مواجهات أو صدامات مع ورثة عرش "سايكس بيكو"، دون أن تُدرك أنها في حقيقتها مجرد رقم هزيل، وتابع صغير، يُدار عن بُعد في أجندات الغرب وحساباته السياسية.
رمزية تونس اليوم والبارحة أنها كانت أيقونة ما سُمي بـ"الربيع العربي"، هذا الربيع الذي حمل في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب حين اعتقدنا أنه ربيع ضد ثقافة وموروث "سايكس بيكو"، فاكتشفنا لاحقًا أنَّه مجرد تحديث لثقافة "سايكس بيكو" بعد أن وعى الغرب أن الأمة في حراك حقيقي نحو الانعتاق من تبعيته وأغلال سايكس بيكو، وأن الشعوب العربية في طريقها الصحيح لانتزاع التحرر والاستقلال الثاني، وهو الحقيقي بعد عقود الاستقلال "الهِبَة" من المستعمر.
لم يستوعب الكثير من العرب أن أغلال "سايكس بيكو" الحريرية كأغلال أزمنة القيود الحديدية، وإن بدت ظاهريًا عكس ذلك؛ فهي أغلالٌ لا تسمح للوطني الغيور بتسلم السُلطة في بلاده، ناهيك عن العروبي المناضل وصاحب المشروع النهضوي، لهذا أنتجت "سايكس بيكو" ما يُعرف بـ"الضد النوعي" المتمثل في حركات الإسلام السياسي لتحقيق المعادلة الصفرية في حروبها على الأمة وإعاقتها عن المشروع والوحدة والتكامل؛ بل والتضامن كذلك، وهو أضعف الإيمان! وإلا لما تنازعتنا واستنسرتْ علينا اليوم البُغاث من تُرك وأحباش وعصابات الصهاينة، لتعبث بمقدراتنا وثوابتنا، ونحن عاجزون حتى عن التعبير بالمشاعر.
أبناء ثقافة "سايكس بيكو"- ورغم قوتهم وجبروتهم وعدتهم وعتادهم- إلا أنهم أجبن من فراشة حين يتعلق الأمر بمُواجهة إرادة شعب، مهما بلغ هذا الشعب من عدد وعدة وقوة.. فقد رأيناهم بالعين المجردة كالأنعام- كمثال- حين قرر الشعب المصري العظيم الإطاحة بنظام دُمية الإنجليز الملك فاروق عام 1952، وحين التحم الشعب المصري مع جيشه الباسل في ملحمة 30 يونيو 2013، لطرد فلول "الإخوان" وتجفيف مُخططهم لإعادة محاولة بيع مصر وإنتاج عهد فاروق جديد وتمكين ثقافة كامب ديفيد في مفاصلها الحرجة والتي تعطلت بفعل قوة وعقيدة جيش مصر العظيم.
تونس اليوم ليست ببعيدة عن تجربة "مصر الناصرية"، رغم فارق الزمن ولغة الأرقام في المساحة والسكان، وبعض الاختلافات الطفيفة، والتي أنتجتها ثقافة القطيعة في زمن شيوع "سايكس بيكو"، لكنها اليوم تكشف عن وجهها الحقيقي بأنها وإن كانت صغيرة في مساحتها ومتواضعة في تأثيرها وحضورها في المشهد السياسي العربي والإقليمي والدولي، إلا أنها دخلت التاريخ العربي المعاصر ورسمت ثقافات جديدة وقناعات كالعقائد، حين انتخبت المشروع على الأيديولوجيا، والذي تمثل في انتخاب الأكاديمي قيس سعيّد، ورفض أيديولوجيا الأحزاب، وبالتالي أنتجت تونس نموذجًا عربيًا فريدًا يُعبر عن وعي عميق للشعب التونسي. ظاهرة قيس بن سعيّد لم تكن مقلقة ورسالة نهاية حزينة للتجربة الحزبية "الاستعراضية" في الوطن العربي؛ بل مؤلمة ومرعبة لورثة "سايكس بيكو"، لأنَّ خيوط اللعبة قد انتهت وزمن التبعية والإدارة عبر اللوبيات الحزبية والوكلاء المحليين والديمقراطية الصورية، آخذة في الأفول والتراجع الكبير.
ما أقدمَ عليه الرئيس قيس بن سعيّد من خطوات حل الحكومة والبرلمان، لم تكن خطوات قسرية وجراحة عاجلة للأوضاع المتدهورة في تونس؛ بل ضرورة وطنية وخطوة ظاهرها تونس وباطنها الأمن القومي العربي برمته، فتصويب المسار السياسي بتونس يعني بالنتيجة تصويب وتسريع خطى المصالحة في ليبيا، ووقف التشظي والهدر والابتزاز السياسي حول الجوار الليبي كذلك، فبفعل تشظي الدولة وغيابها بليبيا، تحولت ليبيا إلى بيت مال لتنظيم الإخوان، ومعمل تفريخ وإنتاج للإرهاب والإرهابيين، وشكّل النفوذ الإخواني في تونس حالة مثالية لإنتاج الفوضى وتهديد الأمن القومي للجوار الليبي، والمتمثل خاصة في مصر والجزائر. فمصر والجزائر على قائمة الاستهداف لمخطط الربيع القادم، والذي يحمل أجندة واحدة للبلدين؛ وهي تدمير المؤسسات العسكرية فيهما، واللتان تشكلان الضامن الوطني الأوحد للسيادة والاستقلال الوطني، وفي ظل تمكن الإخوان في تونس وتشظي الدولة وغيابها بليبيا؛ فإن الوضع مثاليًا للغاية لتمرير المخطط.
اعتماد بن سعيّد على سُلطة الشعب- كمصدر لجميع السُلطات- رغم نواح الإخوان ومن يقف معهم واسترداده للدولة المخطوفة من أيديهم، جعل التنظيم الدولي ومن يقف خلفه من عرب وأعاجم، في حالة شللٍ تام، فهُم بطبعهم لا يواجهون الفيضانات والأعاصير، وأجبن من أن يقفوا أمام زلزال شعبٍ وانتفاضته، وفي التاريخ المعاصر أمثلة لا تُحصى على ذلك.
تونس اليوم مؤشر خطير وكبير لمآلات وتحولات كبرى ستشهدها المنطقة العربية، وانتصار الشعب التونسي وثبات الرئيس بن سعيد واندحار تنظيم الإخوان وزواله من آخر قواعده، سيُبنى عليه واقع عربي مضيء، ولا يقل ألمًا من اندحارهم في قاهرة المعز، والأيام حُبلى بالمفاجآت.
قبل اللقاء.. مارس إخوان تونس فظاعات لا تنتهي، فاختار الرئيس قيس بن سعيّد نهاية فظيعة لهم. وبالشكر تدوم النعم.