د. صالح الفهدي
وطنكَ ليس المكان الذي ولدتَ فيه، بل هو المكان الذي عشتَ فيه، وانتميتَ إليه شعورياً. مقولةٌ تنطبقُ على عمانيٍّ حتى النخاع اسمه "أوليفر آلان"؛ ذلك الإنجليزي الأصل، الأحمرُ البَشرة، الذي أصبحَ لا يظهرُ إلاَّ بمظهرهِ العمانيِّ خاصَّة الزيَّ الرَّسميَّ منه، فما الذي يدفعني للكتابةِ عنه، وقد كسبَ الجنسية العمانيةَ قبلهُ كثيرون؟
اختلف الشاب "أوليفر" عن كثيرين لانتمائه إلى عُمانَ شعورياً، ولو أنني رأيته أثناء تغرُّبي في المملكة المتحدةِ وهو يُخالطُ أهلها في عاداتهم، ويتكلَّم بالإنجليزية الصِّرفةِ، لما تخيَّلتُه أن يكونَ عمانيَّاً لا يتحدَّث اللهجة العمانية متباهياً وحسب، بل ومعتزاً بلكنتها، ومع ذلك لا يبدو مستعرضاً لمهارات حيازةِ مفرداتها، بل شغوفاً بانتمائه لها، ولا معبِّراً عن قدرتهِ في التخاطبِ بها، بل معلِّماً غيره دروساً عميقةً في أنَّ اللغة واللهجةَ تحديداً هي مما يعمِّقُ الانتماء إلى الهُوية الوطنية، وأنَّ الاعتزاز بها باعتبارها لغة الشعب العماني إنَّما هو اعتزازٌ بالعراقةِ، والأصالةِ، والانتماء.
أوليفر يتحدَّث بلهجةٍ عُمانيَّة ممتعةٌ في وقعها على الآذان، نقيَّةٌ في مفرداتها، فتشعرُ حين تسمعهُ وهو يتحدَّثُ بها وكأنَّما قد عاشَ في قريةٍ بين الجبالِ، قضى سنيَّ عُمره وهو يسقي ضواحيها من سلسال ماءِ فلجها، ويرمسُ في الليلِ مع صحبه يتبادلون أطرافَ الحديث. إنَّما أمرهُ ليس كذلك، بل أعمقُ من ذلك، وقد قالها نصيحةً لطلَّاب كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها: إنَّ الطريقة الفعَّالة لتعلِّمِ قومٍ هي تعلِّم لهجاتهم. لقد أدركَ أنَّ اللغةَ فاصلٌ عاطفيٌّ، وشعوري، بل وفكري، حتى بين الأبِ وابنهِ إن كانَ الأب عمانياً يتحدَّث بلهجته القحَّةِ، وابنه يرطنُ اللغة الإنجليزية وقد غيَّب لغته الأُم، حينها لا يستطيع اللِّسانان أن يذوِّبانِ جمود العاطفة بين القلبين، فيسري شعور خفيِّ بغربةِ المشاعرِ بينهما، وإن كانا – على السطح- يدفعانهُ بتصنُّعٍ وتكلُّف!
أراد أوليفر أن يكون (عمانياً) حقيقياً وليس زائفاً، يلبس لباس أهلها، ويرطنُ بلغةِ قومٍ آخرين، فهو لم يشأ أن يعيش مزدوجاً بين مظهرٍ ومخبر، بل أراد أن يتطابقَ في عمقهِ وفي ظاهره، أراد أن يُبرهنَ بأنَّ العمانيَّة ليست ثوباً وإنَّما شعور، فالشعور هو ماءُ الانتماء، ولا يمكن لانتماءٍ أن يرتوي عرقه، ويخضرَّ غصنه دونَ ماء!
وحينما حققَّ شرط عمانيَّته، فأعلن "باختصار: لقد عمَّنتني عمان" لم يكن يبعد عن المعنى اللغوي من فِعلِ (عَمَن) أي استوطنَ واستقر، وهذا ما فعلته به عُمان، لكنَّه بادل عُمان شغفاً بشعف، فانتمى إليها نفسياً، وعاطفياً ووجدانياً، ووجد أن شخصيته العمانية هي التي تناسبُ القيم التي اكتسبها فكوَّنت نظرته إلى نفسه، وليس في ذلك الشعور تجنٍّ عن بلدٍ ولدَ فيه، فقد يولدُ الإنسانُ في وطنٍ وينتمي لغيره، أقول حينما حقق شرط عمانيَّته، خجِل من نفسه؛ كيف يكونُ عمانيَّاً فيتباهى بإتقانه لهجةِ أهلها، ويعتزُّ بانتمائه لها، وهو غيرُ مسلم.
لنقفَ هُنا.. وليقف معنا كلَّ من ولدِ على ملَّةِ الإسلامِ في هذا البلد الذي عانق رسالة نبيِّه الطاهرة طوعاً، ثم داخلته الأفكار الدخيلة، وتعالى بفكره المغشوش، وسمح لعقله أن يكون أُلعوبة للأفكار الشيطانية المتخبِّطةِ في عالم الفراغ الروحي، بل مستنقع الإلحاد الذي ما وقعَ فيه متشكِّكٌ موهومٌ إلاَّ أصبحَ "صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: 126).
لقد خجِلَ هذا الإنجليزي الأصل، العماني الانتماء والهُويةِ والانتماء؛ كيف له أن يتباهى بعمانيَّته، واعتزازه بالانتماء إليها، وهو ليس مسلماً، والعُمانيةُ في أساسها معجونةٌ بنورانيةِ الإِسلام، ومضمَّخةٌ بمِسكِ رسالة نبيِّه الزكيِّ الطاهر.. حينها آل على نفسه أن يدرس الإسلام لسنواتٍ ثلاث، حتى لا يخادع نفسه، ولا يغشَّها باعتناقِ ديانةٍ لا يعرفُ عنها شيئاً، فانتهى به الأمر وقد أكملَ نصف عُمانيته بالإسلام.
لقد قدَّم أُوليفر بما يملكُ من حسٍّ وطنيٍّ، وغيرة على الدِّينِ الإسلامي دروساً لكثيرين عليهم أن يتعلَّموها، ويُدركوا أبعادها العميقة في معنى الهوية، والوطنية، والولاء، والانتماء إلى عُمانَ وإلى الإسلام وهو روحها ولبِّها. أرادَ من خلال مقاطعه "قصَّة إسلامي" أن يوجِّه رسالةَ هدى ورشاد لمن انحرف عقله عن الطريق المستقيم؛ طريق المنطق الذي لا إعوجاج فيه، وأراد من خلال شعاره (عمَّنتني عُمان) أن يقول: أنَّ لعُمانَ قلباً ينبضُ بالعاطفةِ لا يدركهُ إلاَّ من عشقَ عُمان، وأخلص في حبها، وانتمى إليها.
فتحيَّة لأوليفرَ آلان، عمانياً حقَّقَ شرط عمانيَّتهِ الوطني، ومسلماً حققَّ النصفَ الثاني من انتمائهِ الروحي لعُمانَ وأهلها.