د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
** كاتب قطري
على وقع أحداث تونس أكتب هذا المقال، لطالما تغنى كُتَّابُنا، قديماً وحديثاً، بفرادة تجربة تونس السياسية والتنموية عربياً، وكانت مثار إعجابهم بما فيهم كاتب المقال، وكتبوا وكتبنا عشرات المقالات حول سر تميز التجربة التونسية؛ كونها في مهب رياح الفكر الأوربي والأقرب لتأثيراتها.
ومنذ أيام أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد قرارات ثورية، اختلف كتابنا ومغردونا في تقييمها كل بحسب مشربه السياسي والأيديولوجي؛ مقالات وتغريدات عدتها "انقلاباً" على الدستور ومؤسساته ورأت أن جهات خارجية وراءه، وأخرى رأتها ضرورة لتحجيم الفساد المستشري والمحسوبية التي تنخر في مفاصل الدولة وتستنزف مواردها.
أسعى في هذه السلسلة من المقالات إلى تجاوز موقفيْ الرفض والتأييد وصولاً إلى جذور العطب العميق للمعضل السلطوي العربي الممتد إلينا عبر 15 قرناً، طبقاً لمنهج حفريات المعرفة.
لطالما استبشرنا وتفاءلنا بانطلاقة شرارة البوعزيزي التي أشعلت مصابيح الحراك الشعبي العربي الذي انتفض رفضاً لتراكمات الظلم والظلمات، ظلمات قرون طويلة استعبدت فيها مجتمعاتنا وشعوبنا خسف بها وعانت مثلث الذل والقهر والقمع، هذا الإنسان المقهور الذي كان يربط ويضرب ويجلد حتى يدفع المكوس جباية لساكن القصر خليفة المُسلمين المتنعم بالحواري الحسان وأطايب الطعام والفالوذج، وما أدراك ما حلوى "الفالوذج"؟!
عاشت شعوبنا ومُجتمعاتنا قروناً متطاولة هملاً، لا رأي لها فيمن يحكمها ولا مشورة لها في أي شأن عام في حاضرها ومستقبلها ومصيرها.
انتفضت الشعوب العربية فيما سُمي بثورات "الربيع العربي" في الدول المركزية ذات الثقل الحضاري والسكاني، رفضاً لحكم الثوار العسكريين الذين انقلبوا على حكم الملوك وأسقطوا العقد الاجتماعي القديم وحكموا بموجب "عقد اجتماعي" جديد، وعدوا ومنوا الجماهير بتحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية وإقامة الديمقراطية وتطبيق العدالة الاجتماعية وإنجاز التنمية العامة وتوفير المعيشة الكريمة للمواطن. صفقنا لقادة الانقلابات وهللنا لزعماء الثورات، وسرنا وراءهم جميعاً هاتفين بالروح والدم نفديك زعيمنا البطل، واستيقظنا بعد نصف قرن لنجد أن الآمال تلاشت والأحلام تبخرت والوعود تبددت، لا فلسطين تحررت، ولا الوحدة تحققت، ولا مشاريع التنمية نجحت، أما ديمقراطية الثوار فقد أذاقتنا مر العذاب، انقلبت جحيمًا حارقة، امتلأت سجون النظم الثورية بالمسجونين، فلا صوت يعلو صوت المعركة، وشهدت هذه السجون أبشع أساليب التعذيب في تاريخ البشرية كلها.
لقد كان نصف قرن من الفشل والفساد وإهدار كرامة الإنسان العربي وتبديد الثروات والموارد الوطنية والقومية، فشل الزعماء القوميون في تحقيق أي إنجاز وعدوه أو شعار رفعوه، فشلت الناصرية بكافة نسخها: التقدمية والاشتراكية، وفشل البعث بنسختيه: السوري والعراقي، فشلوا وتركوا مجتمعاتهم خراباً يباباً، هيمنوا على البلاد والعباد وأكثروا من الإجرام والفساد، على أن أخطر وأسوأ إجرامهم، تخريب نفسية الإنسان العربي حتى فقد الثقة بأخيه العربي، لقد كان التعذيب الذي مورس على الإنسان العربي في الحقبة الناصرية والبعثية من قبل جلادي هذه الأنظمة القمعية والذي وصل حد إهدار كرامته وسحق آدميته كفيل بجعله مخلوقا آخر مهزوزاً نفسياً، لقد سلطوا المواطن على أخيه المواطن، يتجسس عليه، يرفع تقارير ضده، يشي به، فيرمي به في سجن العذاب بلا رحمة، أفسدوا العلاقات الإنسانية : علاقة الابن بأبيه، والزوج بزوجته، والأخ بأخيه، ومن شاهد الفيلم المصري "إحنا بتوع الأوتوبيس" إنتاج عام 1979 للمبدعين: جلال الدين الحمامصي كاتبًا، وحسين كمال مخرجًا- والذي جسد نموذج التعذيب البشع في الحقبة الناصرية- يتأكد من الطبيعة الشريرة لهذه الأنظمة الثورية.
لقد وصلت الأوضاع إلى الحضيض، وتفشى الفساد، وساد الظلم والقمع والقهر، وانسدت آفاق التغيير، وفقدت الجماهير العربية ثقتها بأنظمتها الحاكمة وشعاراتها القومية، فكان لا بُد من التغيير عن طريق الهبَّة الجماهيرية التي تحدت حواجز الخوف والرهبة والهيبة مطالبة برحيل هذه الأنظمة الفاسدة.