كان هنا وهناك.. ثم مضى!

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

في سبعينيات القرن الماضي حينما أومضت السماء على امتدادها ولاح سناها هنا وهناك، كانت نسمات العليل من ضلكوت إلى صرفيت وصولاً إلى منطقة الحصن في مدينة صلالة، تعانق هام السحب وتلامس الثريا بانبساطها وسعدها وبهجتها في حدس منها وإحساس، بأن ثمَّة قادم سيُغير من طبيعة الحياة في عُمان كافة، وكانت زخات المطر ورذاذ الخريف في ريسوت والعوقدين والحافة والقوف وصلالة الغربية ووسط المدينة ومركزها والدهاريز والسعادة وصحنوت انتهاء بطاقة ومرباط، يحكيان صبر الأرض ونضال العمانيين عليها إبان الحرب آنذاك، التي كانت في الجزء الجنوبي من البلاد.

وكانا يسطران تفاصيل مشرفة بأحرف من نور على صفحات ناصعة لتاريخ عمان الماجد الحافل بالكثير من المنجزات والبطولات التي قام بها العماني، الذي كان ولا زال أنموذجا ومثلا يحتذى به وحديث القاصي والداني في العالم أجمع، وكان كل شيء في ذاك المقام يعانق البحر ويلاطف نسماته ويطل بشرفاته عليه، ويؤسس لمستقبل عمان ولحاضرها المشرق الواعد المزدهر.

وكانت شجيرات النارجيل وإخضرار نبات الموز اللواتي تشتهر بهن صلالة ومحافظة ظفار عموما، يتعمقن في بطن الأرض، ويعشن نشوة التغيير القادم، ويستقرئن انعامهن بالخير الذي كان يمضي إلى التحقق، ويتقدم إلى أن يكون واقعاً، فكنَّ يختلن بهجة وحبورًا في صورة لم يفهمها البشر، وفي تجلي وسمو لم يعهده آدمي ولم يلمحه إنسان الأرض.

وفي قصر الحصن بصلالة منذ أكثر من 50 سنة، كانت تنسج خيوط نهضة كبرى أشرقت على عُمان وعمتها من أقصاها إلى أقصاها، وفيه كان ذلك الشاب الوسيم يرسم ويُخطط لمستقبل عُمان وأهلها، وكان يتأهب لأن يجعلنا في نعيم دائم وفي حياة كريمة عزيزة، مليئة تطورا وتقدما بقوة ومشيئة وإرادة الواحد الأحد الفرد الصمد.

وكانت الدعوات قبل ذلك، بأن يتحقق النصر ويعم الأمان أرجاء المعمورة، ويسود الأمن أولاً تلك البقعة الجنوبية من البلاد، وتاليها أخواتها من البلدان والقرى، ليهدأ جميع أركان الدولة العمانية ومفاصلها وأعمدتها.

فكان ذلك مطمحاً وملمحاً ورجاءً ورغبات تحققت بفضل الله وفضل وحنكة وحكمة وجهد وعمل وإخلاص ووفاء ذلك الرجل، السلطان قابوس الرجل الخالد فينا- طيب الله ثراه- وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته؛ حيث كان ولا زال حاضراً في كل تفاصيل الحياة العُمانية، وكل جزء منها يفخر ويعتز به، وله عليها بعد الله فضل، فكان هنا وهناك ثم مضى.

وكان لاعتصام أهل عُمان بحبل الله المتين، والتفافهم خلف قيادتهم الحكيمة ولم يتفرقوا، أثر كبير في أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من رفاهية وازدهار وخير دائم بإذن الله.

وبما أن عُمان قاطبة كانت آنذاك على موعد مع فجر جديد، إلا أن تلك الخصوصية كانت أكثر ما يكون حاضرة مع الظفاريين لما كانت تشهده المنطقة الحدودية في منطقة ظفار آنذاك من أحداث راح على إثرها العديد من النبلاء والشرفاء، واستشهد فيها عدد من رجال عُمان البواسل والأشاوس، إلا أنه تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، أخمدها في مهدها ثم مضى.

إنَّ انبلاج فجر سعيد على عُمان وأهلها في الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970 كان التحول والتغير الذي نقل عُمان من مسندم وحتى ظفار نقلة نوعية جعلتنا في مصاف الدول المتقدمة، ومكنتنا بفضل الله من أن نكون شعباً متعلماً مثقفا راقيا في نهجه وفكره وتعامله وتصرفه واحترامه للغير، وعلى الدوام مفاخرين بما تحقق والحمدلله.

إنَّ قضاء السلطان قابوس -طيب الله ثراه- جزء من حياته على ظفار، أمر ظفرت به هي أولا، فانطلق طيب الله ثراه منها للعمل والبناء، فكان هنا ثم هناك ثم مضى.

لقد جاء يوم العاشر من ذي الحجة من هذا العام على غير العادة، فهو رحمه الله ليس بيننا ومعنا، وكل شيء من حولنا بعده تغير وتحول تماماً، وكل شيء جزء منه جفا وهفا.

ومع تعاقب الغسق في ظهوره وولوج أيام الحج الأكبر على هتافات الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولبيك اللهم لبيك، لبيك إنَّ الحمد والملك لك لا شريك لك، ودخول يوم الثالث والعشرين من يوليو من هذا العام على أمة الثقلين.

كان العماني أينما تواجد وكان، يستذكر بمزيد من الشكر إنجازات ومآثر الأب السلطان الخالد فينا السلطان قابوس طيب الله ثراه، فكانت كل نفس تدعو له، وكل شيء يناجي ربه أن يارب يا الله تغمد فقيد عُمان بأسرها بواسع رحمتك واسكنه فسيح جناتك، واحشره مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أؤلئك رفيقا، حيث إنه تركنا على الخير ثم مضى.

فتلك النخيل الباسقات والبساتين الخضراء والمروج في كل أنحاء عمان، كانت تتمتم لقد أوصى بنا وعلينا قابوس طيب الله ثراه في أحاديث ولقاءات كثيرة، إلا أنه طيب الله ثراه مضى بعدما أدى الأمانة ونصح الأمة، فارحمه رحمة واسعة، فقد كان هنا ثم مضى.

ومع رائحة الكيذا والياسمين والريحان والياس وشيء من روائح النباتات والزهر والورد، كانت السواقي هي الأخرى في توجه وتناغم مع إله الكون جلَّ جلاله تقول، بأنه من كان هنا ثم مضى، اهتم بالبيئة ورعاها وأمر بصونها والمحافظة عليها.

ومع هذه الرسالات والمعاني والصلات والدلائل، كانت الطبيعة ترسم لوحات معبرة من صنع الإنسان، وكانت تبث لواعج الشوق له طيب الله ثراه، قائلة لقد أراد أن تعتني وتبني اليد العمانية ولا تعبث بنا يد أخرى، ولكن ذلك لم يتحقق في حياته بالقدر الذي كان يتمناه، إلا أنه بعدما وجه وأمر ونصح وأرشد كان هنا وهناك ثم مضى.

لقد اعتادت تلك النعم من ينابيع وأنهار وأفلاج وعيون وغيرها، أن تستذكر دعمه لها، ووصيته بالاهتمام بها وبالترشيد فيها وصونها وحفظها، وكانت تحظى بأعداد الجالسين حولها وعلى حوافها، تناظرها الأعين وتلاطفها الأيادي الكثيرة التي كانت تغترف منها تارة شربة هنية، وأخرى تلمحها الوجوه فتغتسل بها لتريح عنها ما علق بها من تعب، وما أحدثته الملامح من تغيرات، وكانت حامدة شاكرة، وحينما فارقنا وودعنا همست، إنه كان هنا وهناك ثم مضى طيب الله ثراه.

لقد جاء الثالث والعشرون من يوليو من هذا العام ثم مضى مثلما مضى طيب الله ثراه، جاء مختلفا لا شك، فحزنت قلوبنا ودمعت أعيننا، وتألمت نفوسنا على فراقه، إلا أن وجود جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بيننا، هون علينا الكثير، وجعلنا أكثر طمأنينة وقدرة على العطاء.

فالذي كان بيننا ثم مضى، عمل بأسرع ما يمكن ليجعلنا سعداء، وها نحن اليوم نجني ثمار عمله وجهده وتعبه وسهره وخططه، والخير كل الخير في خليفته مولانا السلطان هيثم المعظم أعانه الله تعالى على حمل المسؤولية وأداء الأمانة، وهو بدون شك أهل لذلك.

ويا الله يا ربنا يا حبيبنا إن السلطان قابوس- طيب الله ثراه- ضيفك، فاكرمه بما أنت أهله وأنت أهل للكرم والعفو والصفح والمغفرة والعتق من النيران، وتغمده بواسع رحمتك واسكنه فسيح جناتك واجعل قبره روضة من رياض الجنة، آمين يارب العالمين.

تعليق عبر الفيس بوك