رُدَّ قدري

 

سعيدة البرعمية

خرجت أنفال ذات صباح إلى حديقة فناء القصر، بعد قضاء ليلة طويلة، انجلى ظلامها دون أن يغمض لها جفن، جلست تحتسي قهوتها، مستمعة لقصيدة محمود درويش "لا شيء يعجبني".

"لا شيءَ يُعْجبُني"

يقول مسافرٌ في الباصِ – لا الراديو

ولا صُحُفُ الصباح، ولا القلاعُ على التلال.

أُريد أن أبكي/

يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ

وابْكِ وحدك ما استطعتَ/

تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضاً. أنا لا

شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري،

فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني/

يقول الجامعيُّ: ولا أَنا، لا شيءَ

يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن

أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة. هل أنا

حقاً أَنا؟/

ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً. أَنا لا

شيءَ يُعْجبُني. أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً

يُحاصِرُني/

يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن

اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا

للنزول.../

فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ،

فانطلق!

أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا. أنا

مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ

من السِّفَرْ.

لقد شعرت أنَّ حالها لا يختلف كثيرًا، عن حالة أبطال قصيدة درويش، ومع ذلك قررت أن تذهب لمعرض الفنون الجميلة، الذي نظمته جامعة المدينة، لعلها تجد فيه ما يُعجبها.

دخلت المعرض وأخذت تجول بنظرها بين لوحاته من زاوية إلى أخرى، فأعجبت بلوحة وأقبلت على شرائها؛ فوجئت أن هناك من سبقها إليها، حزنت ورجعت تجرّ أذيال الخيبة، فلا شيء يُعجبها، وإن أعجبها لا تحصل عليه، جلست على كرسي هزّاز قريب منها، أخذ النّعاس يغزو جفنيها فاستسلمت له، صحت بعد ساعة على أثر صوت جرس الباب، أتت الخادمة تقول:

-     هدية لك سيدتي

-     ضعيها هناك وانصرفي

-     حسنا

رجعت تغط في نومها، مرّت رئيسة الخدم في جولتها التفقدية للقصر، وهي امرأة متقدمة في العمر، تفحصت أمر الهدية، لكنها مُغلّفة وغامضة، اكتفت بتصويرها وإضافة أمرها لسجلّ الملاحظات وانصرفت.

 حان وقت الغداء، أيقظت الخادمة السيدة لتناول غداءها، لكنها رفضت وغاصت مجددا في سباتها، ليرتفع عدد الملاحظات مصاحبا بمقطع ڤيديو لها وهي نائمة على مرأى من الخدم، كاسرة بفعلتها تلك بروتوكول العائلة. كانت الملاحظات تصل للزوج المسافر بدقة متناهية.

استيقظت المساء، نظرت حولها، فإذا بها تقف قريبا منها، ابتسمت لها وقالت:

- الهدية سيدتي هل أفتحها لك؟

- نعم

فتحتها فإذا باللوحة ذاتها، مصاحبة بكرت، مكتوب عليه "أعلم أنها ستعجبك" ابتسمت وقالت في نفسها: مازال يتذكرني ويشعر بما يسعدني، رغم كلّ ما حدث! تبا للقدر الذي حال بيننا يا ابن خالي، سامحك الله يا أبي، بيدك كسرت قلبي وغيّرتَ قدري. أيقنت رئيسة الخدم أن الهدية من مجهول معروف، فيبدو أن السيدة تعرفت عليه من خلال عبارته، وسعدت بها وبالهدية؛ فبادرت على الفور بنقل خبر عاجل.

في اليوم التالي، أتى والدها لزيارتها، وقف خلف الباب يستمع لترنيمة جرس الباب إلى أن فُتح له، رافقته الخادمة إلى غرفة الضيوف الواسعة، وقامت بواجبه ثم أخبرت السيدة بمجيئه.

أتت أنفال وارتمت في حضن والدها مجهشة بالبكاء وهي تقول:

-     كم اشتقت لك يا أبي، خذني معك هذا القصر وعيشه الرحراح يخنقني، إنه مليء بالكآبة والأشباح.

-     وزوجك؟

-     لن يهتم لأمري

-     كيف؟

-     كما قلت لك

-     لا، أنت تمزحين

-     لست أمزح

-     أتدرين أنك محسودة على ما تنعمين به من سعة العيش؟ وهناك الكثير يتمنين أن يحظين بربع ما تتمتعين به من السعادة.

أطلقت ضحكة عالية مصحوبة بالأسى والحسرة، أيُّ سعادة يا أبي؟!

هذا القصر بما فيه لا يعنيني، وبقدر اتساعه يضيق عليّ.

-     غاليتي، اعقلي، أنت الأميرة هُنا، الآمرة والناهية، لا تدعي الشيطان يعبث بمملكتك.

-     أيُّ سيادة وأيُّ مملكة؟! هذا القصر تسكنه الأشباح، وتتناوب على ملاحقتي ليل نهار، وعند ذهابي للنوم أشعر أن هناك من يُشاركني سريري ويقترب من مخدتي، وأنفاسه تقترب مني، أسمع ما يسقط على الأرض وعندما أرفع رأسي، يتجلى لي كل شيء مكانه، فيطير النوم منّي، وتُدَقُ طبول الهلع حولي فيصيبني الخرس ولا أقوى أن أحرّك جسمي، وعندما تغادر قوافل النمل أطرافي، يقشعّر جسمي وأنتفض هاربة من غرفة إلى أخرى، إنني على مشارف الجنون، أين السعادة التي تزعمون؟!

أبي، عاصفة الرّعب تجوب أرجاء هذا القصر، ذي الأعمدة الطويلة العريضة كلّ حين، فماذا عنّي؟

-     لن يستمر الحال طويلا، عندما تنجبين أطفالا سيملأون عليك القصر وسيختفي هذا الشعور، سآخذك إلى شيخ يقرأ عليك، أنت مصابة بالحسد، متى سيرجع زوجك؟

-     لا أعلم، هو ينزل من طائرة قادمة برِجل ورجله الأخرى على متن طائرة مُغادرة.

ضحك الأبّ محاولاً تلطيف الجو قائلا: ما زال دمك خفيفا، رغم معاشرتك الأشباح.

تضحك: نعم هو وريث ابن بطوطة، يأتي الآن وغدا يغادر بحجة العمل، هذا لا يهمني بقدر حاجتي للذهاب معك دون رجوع، بيتنا البسيط يسكنني، بم التعلّل يا أبي في بيت العنكبوت هذا، السجن أحبُّ إليّ.

رقّ لها قلبه، وأدرك أنه ظلمها، قال لا بأس، سأستأذنه للسماح لك بالذهاب معي، اتصل به لكنه رفض مبررا، إنّ الأميرات لا يُغادرن قصورهن، إنما هناك من يُسمح لهم بزيارتهن إن لزم الأمر، غير ذلك فهو مرفوض.

قال الأب: أنت حقاً أميرة، غدا ستأتي أمك وإخوتك لزيارتك متى شئت، تربعي على عرشك أميرتي، نحن جميعاً رهن إشارتك. سقطت دمعتها، موقنة أنّ والدها ليس أفضل حالاً من زوجها، فطمعه هو سبب تعاستها، كلاهما يستبيحان تعنيفها كل بطريقته، مسحت دموعها قائلة: أنا لست أميرة؛ بل أنا قصيدة محمود درويش.