دعون

 

فاطمة بنت إسماعيل اليمانية

" احذر ممن تصنع الذكريات معه، فتلك الأشياء قد تستمر مدى الحياة". سقراط.

***

رفعت رأسها لتتأكد من صاحبة الصوت:

-       البقاء والدوام لله.

وتبعتها بنظرات متوجسّة إلى أن جلست.. ثم نهضت قاصدة الكرسي المحاذي لها.. أمالت رأسها تجاهها؛ وقالت:

-       كيف حالك يا أستاذة رحاب؟

-       الحمدالله بخير وعافية يا ابنتي.. عرفتني؟

-       وهل مثلك يُنسى؟

-       بارك الله فيكِ.

-       وفيك يا أستاذة.. وأطال الله في عمرك.. وأمدّك بالصحة والعافية.

-       تسلمين.. ما اسمك؟!

-       وطفه..

-       وطفه! الثاني إعدادي أول؟!  

ثم قالت لرفيقتها:

- هذه السيدة الجميلة المهذبة كانت من طالبات الصف الثاني الإعدادي أول.. ذلك الصف البليد الذي كنت أضرب طالباته يوميا حتّى التهبت يدي!

غادرتا بعد ربع ساعة، ثم مرّرَت ابنة عمها الشاي على من تبقى من النساء في خيمة العزاء وناولت وطفه كأسا؛ فاحتست الشاي في صمت تشوبه ابتسامة صفراء!

ابتسامة الذكريات.. والمديرة الحازمة رحاب.. الجميلة العازبة؛ لأنّ والدها لا يزوجها إلا من فئة الأشراف!

ولأن الأشراف في منطقتهم لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، فلم يحدث أن تقدم لها أحد للزواج! فكانت العنوسة هي القدر الذي لا بدّ أن تؤمن به؛ كإيمانها بالله والرسل، والملائكة، والكتب، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى.

وكان إيمانها بالقضاء والقدر هاجس يرافقها طوال اليوم الدراسي حين تجوب الممرات بين الفصول الدراسية.. وأيّ طالبة تصادفها؛ تسألها هذا السؤال:

  • ما أركان الإيمان؟

فإذا أجابت الطالبة إجابة كاملة؛ سلمت من ضربات العصا الحارقة، وإذا التبس الأمر وذكرت أركان الإسلام عوضا عن أركان الإيمان؛ فإنّها تحصل على ضربات أكثر.

أمّا إذا نست ركنا أو ركنين؛ فإنّها تنال عددا من الضربات حسب أجندة خاصة يديرها ذهن المديرة فقط!

لكنّها كانت تشدّد كثيرا على ركن الإيمان بالقضاء والقدر، وتختلف حدّة الضرب؛ وفقا لحدة شعورها بقهر العنوسة:

- فهل مصادرة حياتها يقع ضمن القضاء والقدر؟!

- وهل هذه العصا في يدها قضاء وقدر؟!

لتصل لسعاتها إلى الطالبات دون سبب أحيانا إلّا لأنّها تريد الضرب!

فتضرب المنضبطة، وغير المنضبطة، والخارجة من الحمّام، أو الذاهبة إلى غرفة المعلمات وهي محملة بالدفاتر وبأمر من معلمة المادّة نفسها!

ويوما ما أصابت عصاها إحدى المعلمات وهي تعبر الممر، حيث كانت تلاحق طالبة متسربة من الحصّة؛ فأخطأت العصا الهدف وأصابت المعلمة بدلا من الطالبة!

فظلّت المعلمة تتوجع طوال أسبوع كامل يرافقها الشعور بالإهانة، ومرارة الغربة، ولم تشعر بتحسن إلا عندما رأت علبة من الحلويات وضعتها المديرة على طاولتها اعتذارا عن خطئها غير المقصود؛ فتسرب إلى قلب المعلمة شيء من الرضا، وأقسمت أن تغير طريقها إذا صادفت المديرة مرّة أخرى في الممرات!

لكن وطفة رافقها ذلك الألم أعواما طويلة، ورؤية المديرة أعاده للسطح؛ حيث تجدد نزف الجرح، وعادت الدماء للسيلان في يديها رغم مرور ما يزيد على العشرين عاما!

وتذكرت حين دخلت المديرة رحاب وهي غاضبة إلى الصف، وتسأل بأعلى صوت يمكن أن تطلقه حنجرتها:

-       لماذا مزّقتن دعون الصف؟!

لم تتجرأ أي طالبة على الرد.. وتابعت:

-       إذا لم تخبرنني من فعلت ذلك؛ سأعاقب الجميع!

 وابتدأت بوطفة لأنّها كانت تحمل سكينّا في يدها! فهي المجرمة الأولى التي قامت بأبشع عمل تخريبي في المدرسة! فانهالت على راحتيها ضربا بعصاها الغليظة حتّى تورّمتا ونزفتا من شدّة الضرب.. ثمّ ضربت بقية الطالبات، واختلط صوت ضربات العصا بصوت البكاء والتأوهات وصراخها وهي تلقي كلمات مثل:

-       حمير. بهائم.. "إن هم كالأنعام، بل هم أضلّ سبيلا"! 

ثم أمرت بإرجاع الطالبات للمنزل..

عادت وطفه بوجه شاحب مخطوف، فسألتها والدتها:

- لماذا عدتِ باكرا؟

- تصليحات في دعون الصف.

وفي اليوم التالي جاءت كل طالبة مع ولي أمرها.. بينما وقفت وطفه وحيدة تراقب مشهد شفاعة أولياء الأمور لبناتهم.. والتوقيع على تعهد بالانضباط.. ولم يعاتبها أحد على ضرب ابنته؛ بل قالوا لها:

-       البنات بناتك.. ولكِ مطلق الحرّية في تربيتهن عندما يخطئن.

لتردّ بابتسامة شاحبة:

-       بناتي.. طبعا بناتي!

خلت غرفة المديرة من أولياء الأمور، وعادت الطالبات إلى الصف، ولم يتبق إلا وطفة.. فسألتها بعد أن حدجتها بنظرة حادّة:

- أين والدكِ؟

- في البيت..

- عودي إلى البيت واطلبي منه الحضور..

- لا أستطيع..

- لماذا؟

- والدي مريض!

ثم جثمت على ركبتيها باكية؛ فسرت إلى جسد رحاب قشعريرة تشبه القشعريرة التي تنتاب القاتل بعد الإجهاز على ضحيته، وقالت لها:

- ما معنى وطفه؟

- اسم جدتي..

ضحكت رحاب من طرافة الرد.. وشعرت أنّها بخير.. وأن ثمة وهج من إنسانية تسري في دمها؛ فطلبت منها الذهاب إلى الصف..

مر اليوم الدراسي في سلام.. يوم ثان.. ثالث.. حتى انتهى الأسبوع ليعيد دورته وكان النظام في المدرسة أن يكون التنظيف موزعا في جدول دوري على صفوف المدرسة..

وكان الصفّ الثاني الإعدادي الأول في بداية الأسبوع.. حيث يجب على الطالبات تنظيف المدرسة وتقديم الإذاعة الصباحية.. لكن معظم الطالبات يأتين مشيا على الأقدام.. وبمجرد وصولهن المدرسة يدق جرس الطابور؛ ليتفاجأن بأنّهن نسين إعداد برنامج الإذاعة، ولم يتمكنّ من تنظيف ساحة المدرسة.

لذلك وقفت المديرة رحاب ترشق الطالبات بنظرات مستنفرة؛ كأنّها على أهبة الاستعداد للدخول في حرب!

وسألت عن طالبات الإذاعة؛ فأبلغتها المعلمة أنّ دوري الإذاعة على الصف الثاني الإعدادي الأول؛ فثار غضب المديرة وقالت لهن:

-       لتحضر ثلاث طالبات حالا.

فأسرعت المعلمة وجذبت ثلاث طالبات بطريقة عشوائية، وكانت وطفة من بينهن، وطلبت من الطالبة الأولى قراءة القرآن الكريم، فقرأت الطالبة وهي ترتجف سورة "الإخلاص".. ثمّ جاء دور الحديث الشريف؛ لكنّ الطالبة ارتبكت من شدة الخوف؛ فقالت:

قال رسول الله رضي الله عنه، وسمعت صرخة تبعتها لطشة من عصا المديرة:

- محمد صلى الله عليه وسلم.. يا بهيمة!

 فقالت الطالبة:

- من غشّنا فهو منّا.

فصرخت المديرة:

- من غشنّا فليس منّا.. ما هذه البقرة؟! اغربي عن وجهي!

ولطشتها بالعصا لطشة أخرى شعرت بانسلاخ جلدها عن ظهرها؛ فابتعدت وهي تحكّ ظهرها من شدّة الألم.. ثم اقتربت وطفة لتقول حكمة الصباح، لكنّها نَسِيَت كل الحكم الّتي حفظتها عن ظهر قلب.. ماذا تقول؟ ومن أي جهة ستأتيها لطشة عصا المديرة! وأفاقت على صرخة من المديرة:

-       من جدّ وجد.. هيّا أكملي..

لكنّ وطفه ظلّت صامته كأنّها ابتلعت لسانها، فضربتها المديرة، وهي تردد:

- من جدّ وجد.. ومن زرع حصد!

ثمّ أمسكت (مكبر الصوت) وقالت:

-       جميع الطالبات إلى الصفوف؛ عدا الثاني الإعدادي أول.

تسمّرت طالبات الفصل في مكانهن مرعوبات؛ فاقتربت منهن، وانهالت عليهن بالضرب؛ ثم أمرتهن بالبقاء في ساحة المدرسة تحت أشعة الشمس الحارقة لمدة حصتين.. ومن سوء الحظّ أنّهما زمن حصّتي مادة الرياضيات؛ فشعرت معلمة الرياضيات أنّها معاقبة معهن.

وفي الأسبوع الثاني.. تكرر سلوك الطالبات وتكرر عقاب المديرة.

وظلت المديرة رحاب تعيد نفس العقاب مع الطالبات لمدة شهر كامل.. ولم تتوقف إلا بعد رؤية معلمة الرياضيات تحمل هي الأخرى عصا وتشارك في ضرب الطالبات غضبا بسبب حصصها التي يفوت زمنها في طقوس العقاب الأسبوعي! ثم أطلقت صرخة غيظ وسقطت مغشيا عليها؛ لتهرول زميلاتها لإسعافها.. فقررت المديرة شطب الصف من دوري النظافة والإذاعة.

نفضت وطفه عنّها غبار الذكريات المؤلمة.. وأرسلت لمن تبقى من زميلات الدراسة في مجموعة الواتس آب:

- رأيت اليوم المديرة رحاب!

- بعصا؟! أو من دون عصا؟!

فتحولت الرسائل إلى سيل من التعليقات المضحكة، وتذكرن قصة الدعون، عندما قررت مزون صديقة وطفة أن تحذو حذو مشاغبات الفصل، على الأقل لتضرب لسبب، وليس كالعادة تلفح يدها عصا المديرة بدون سبب!

لذلك قررت مطاردة قطّة صغيرة دخلت الفصل، وانطلقت خلفها للإمساك بها، فانزلقت قدمها، واخترق جسدها نافذة الدعون المتهالكة فهشّمتها، فخرج نصفها من فجوة النافذة، ونصفها الآخر داخل الفصل!

أثار منظر مزون ضحك الطالبات، فأخرجت وطفة سكينا، وأسرعت لقطع الحبال التي تربط الدعون، وفي نفس اللحظة دخلت المديرة رحاب، لتشاهد وطفة ممسكة بسكينا كبيرة!

فأصابتها نوبة غضب فضربت وطفة ثم بقية الطالبات، وجعلت منّها أمثولة تحكي عنها يوميا في الطابور؛ عدا عن حصولها على أكبر قدر من نظرات الازدراء ودماء نازفة، يتجدد ألمها كلما شاهدت المديرة رحاب، أو مرّ اسمها على مسامعها! أو مرّت بأي بناء من دعون!

(النهاية)

 

 

تعليق عبر الفيس بوك