علي بن سالم كفيتان
فقدت عُمان صبيحة يوم العيد عميد ومُؤسس طب تقويم الأسنان في السلطنة الدكتور مسعود بن سعيد بن عيسى مرقاع الكثيري، وفقدت قريتي الوادعة في جبال ظفار الطبيب القدوة والرجل الدمث الخلوق.
وُلدَ أبو عيسى في جبل تيدبور بنيابة طيطام في نهايات عام 1959 تقريباً، في وقت كان الرحى يطحن الحياة البسيطة للناس؛ حيث يسود الجهل مسنوداً بالفقر والمرض. وترعرع في كنف أبيه الشيخ سعيد بن عيسى، الذي عرف عنه الكرم والشجاعة والإقدام، فكان جليس الولاة وأحد أركان برزة ظفار، يهابه كل من دخل عليه؛ لأنه ولد صريحًا ومات على ذلك، فمشى أبناؤه على نهجه، ومنهم الدكتور مسعود عليهما رحمة الله.. قبل عام ونيف قابلتُ أبا عيسى عائداً من مسقط رأسه (تيدبور) في أواسط الخريف الماضي ترجَّل من سيارته وسلَّم عليّ كما كان يفعل في كل مرة؛ حيث لا يكتفي بالحديث من نافذة السيارة فساد حديث حميم وود عميق، سأل فيه عن والدتي وعن أبنائي وتمنى لي ولهم حياة طيبة كريمة، وكان حريصاً على دعوتي لكي أظل معه ذلك النهار، فصغت له الكثير من الأعذار كي أتمم زيارتي أنا كذلك، كما فعل هو. غادرني بن مرقاع ولحيته مخضبة بحبات المطر وجسده قد أرتوى من زخات الخريف الباردة حمل عصاه وقال: "لنا موعد آخر بإذن الله أبا سعيد" فكان هذا هو اللقاء الأخير بيننا.
الدكتور مسعود الكثيري- عليه رحمة الله- كان قصة كفاح يجب أن تحكى للأجيال؛ ففي سن الحادية عشرة غادر قريته في تيدبور للمرة الأخيرة وأنضم لجموع الأطفال المهاجرين إلى منطقة حوف لبدء التعليم الذي كان محرّماً على أبناء الأرياف والبوادي في تلك المرحلة، ـوحسب بعض الروايات كانت تغادر قوافل الجمال العائدة من ظفار بعد أن تجلب المؤن والأسلحة للثوار ومعها جموع الأطفال والنساء الفارين من لهيب الصراع الدائر في الجبال. كان مسعود الصبي الحالم بمستقبل أفضل بين هذه الجموع يسير ليلاً ونهاراً؛ حيث لا يمكن لأحد أن يشتكي لأحد، الكل يجرون أقدامهم ويحثون الخطى بعيدًا عن مسرح المعركة في الليل، تطوف عليهم نساء من الريف وتغطي أجسادهم شبه العارية بما تيسر، وفي الهزع الأخير ترغي الجمال ويصحو الجميع بما فيهم هؤلاء الأطفال الذاهبين إلى المجهول. يصل الجميع بعد عناء شديد إلى حوف؛ تلك القرية التي ضمت شتات الكثير من المهاجرين، رجالًا ونساءً وأطفالًا وثوارًا، لا تربطهم في غالب الأحيان صلة دم مباشرة، ولكن جمعتهم عشرة الحرمان، فصاروا أسرة واحدة لا يعيرون اهتماماً لاسمك الأخير، بقدر حرصهم على بقائك حيًا في تلك الظروف الصعبة.
تلقى الطفل الغض الصغير تعليمه الأول في مدرسة الشعب عام 1971، فشهد له جميع أقرانه الذين لا زالوا على قيد الحياة بالجد والاجتهاد، فلم يتوانَ عن واجباته اليومية ولا عن مهماته الأخرى التي كان يكلف بها، حتى أنهى الدراسة الإعدادية، وبعدها ألتحق بمدرسة حسان الثانوية فكان من أوائل الدفعة، وتم ابتعاثه إلى جمهورية كوبا في عام 1980 لدراسة طب الأسنان في جامعة سانتياجو، التي تخرّج فيها عام 1989، وعاد الى بلاده مُسلحًا بعلم نافع، فالتحق بوزارة الصحة في عام 1990، وأكمل دراسته العليا في مملكة إسبانيا عام 1996؛ حيث كان في تلك الفترة لم يولد بعد أي قسم لتقويم الأسنان في وزارة الصحة، وربما كان ينظر له في تلك الأيام كنوع من الترف، ولا يوضع ضمن الأولويات؛ كونه يدخل في خانة الطب التجميلي، فخاض أبو عيسى نقاشات عميقة مع المعنيين بوزارة الصحة لا تخلوا من الحدة أحياناً لإنشاء القسم، حتى تمَّت الموافقة، فأسس أول قسم لتقويم الأسنان في مستشفى النهضة، وتابع إصراره على ابتعاث أطباء عُمانيين لتكملة دراساتهم العليا، وهذا ما حصل.. فصار اليوم قسم الأسنان بمستشفى النهضة أحد أكبر الأقسام التي تعيد الابتسامة الجميلة لكل من لا يستطيع الدفع للمستشفيات الخاصة باهظة التكاليف.
عاد الدكتور مسعود عليه رحمة الله إلى ظفار في عام 2008 ليؤسس قسم تقويم الأسنان بمستشفى السلطان قابوس في صلالة، وحسب شهود ممن عملوا مع الرجل في ذات المهنة، فقد ذكروا أنه يمقت المحسوبية ويحترم المواعيد ويميل لحب الفقراء والمعوزين.
فيا ترى كم ابتسامة جميلة أعاد رسمها الدكتور مسعود في عُمان؟
كان يعمل أبو عيسى لساعات طويلة دون كلل أو ملل، وربما تسببت المياه الآسنة التي كان يشربها في طريقه الطفولي إلى حوف في استئصال إحدى كليتيه قبل 10 سنوات وزاد عليه السكر هماً صحياً آخر، ورغم ذلك أسس عيادته الخاصة التي كانت امتدادا لعمله الصباحي في المستشفى، فقد كانت أسعار عيادته هي الأرخص وبالتقسيط المريح، ومن لم يستطيع الدفع فالإعفاء هي صفة متجذرة في هذا الرجل، حتى كادت أن تنهار العيادة مالياً؛ فظل هذا هو ديدن طبيبنا العظيم حتى صمت قلبه عن النبض مع تكبيرات صبيحة يوم العيد؛ ليلقى ربه في أفضل أيامه تقياً نقياً مؤمناً..
ستفتقدك عُمان يا أبا عيسى، وسنفتقدك نحن أبناء حلتك، فلطالما كنت رمزًا للجد والاجتهاد والعمل المخلص... عليك رحمات الله.