العمانيون.. رحلةٌ من أجل العطاء (1- 2)

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

يُشكل البحث عن لقمة العيش ومحاولة إيجاد مصادر مُختلفة للرزق هاجسًا لدى الكثير من الأمم والشعوب، فطفقت تسعى وتجوب المحيطات والآفاق في سبيل هذا الهدف الأسمى وتحقيقا لحياة كريمة آمنة مطمئنة.

وكان العمانيون من أوائل هذه الشعوب التي كان لها فضل الريادة والسبق في التواصل مع الشعوب الأخرى خدمة لأهداف كثيرة كان البحث عن الرزق من أههما. وعندما نقول الرحلة فإننا نقصد الرحلة بنوعيها الداخلي والخارجي وبأهدافها الثلاثة السامية التي كان نشر الإسلام أحدها وكانت الملاحة والتجارة واحدة منها، وكانت الرحلة الخاصة بالبحث عن الرزق أكثرها شيوعاً وانتشارا.

وتحدثت في لقاء تلفزيوني عن أن رحلات العمانيين لم تكن مقصورة على نشر الإسلام فحسب، كما يروج بعض الكتاب وإن كان لهم دور فاعل في الفتوحات الإسلامية منذ البدايات الأولى، وإن كانت المشاركة في الفتوحات الإسلامية تحمل في ثناياها هدفًا مبطنًا غير معلق وهو البحث عن الرزق.

والدليل على ذلك أن مجموعة كبيرة من الذين شاركوا في الفتوحات الإسلامية استقروا في تلك البلدان وتزوجوا وانصهروا مع تلك المجتمعات. وأشرت في محاضرة ألقيتها في "اتحاد كتاب مصر" إلى التواصل الثقافي والحضاري بين مصر وعُمان، وأشرت إلى أن العديد من الأسر التي خرجت مع الصحابي عمرو بن العاص استقرت في مصر. ويمكن للزائر لمصر أن يلحظ أسماء القبائل والأسر على لوحات المحلات التجارية، ونحيل القارئ الكريم إلى ندوة "العلاقات العمانية المصرية" التي نظمها المنتدى الأدبي منذ سنوات طويلة ففيها تفصيل لما نتحدث عنه. ولنا في كتاب الدكتور رجب محمد عبد الحليم "العمانيون والملاحة والتجارة ونشر الإسلام"- الذي أهداه لي معالي المرحوم السيد محمد بن أحمد البوسعيدي المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية- الدليل على ما نقول؛ حيث جاء العنوان متوازنا منسقا مع ما طرحناه.

وقد زرت حيا اسمه (صلالة) أثناء مشاركتي في إحدى المؤتمرات بحيدر آباد، لعل سكانه هم من أحفاد أهالي صلالة أو ظفار الذين جاؤوا للتجارة أو جنودا في الجيش البريطاني الذي كان موجودا في الهند أثناء الاحتلال البريطاني.

وقُدر لي أن أشارك بورقة عمل في التواصل الثقافي بين الهند والعالم العربي في اتحاد كتاب الإمارات في أبوظبي قبل عدة سنوات وكان معظم الحاضرين من (كيرالا) وبحضور السفير الهندي والتاجر يوسف علي، فأعجب السفير الهندي بالورقة وطلب نسخة منها من دون الأوراق المقدمة.

وبعد انتهاء المحاضرة تجمع حولي عدد كبير من الهنود ليتأكدوا من صحة المعلومات التي ذكرتها وهي أن العمانيين عندما رأوا هذه المدينة الجميلة ببساتينها وجوها الجميل تشاوروا بينهم في اختيار اسم مناسب لها، فاستقر رأيهم على أن يختاروا لها اسم (خير الله) التي تحولت بعد ذلك إلى كيرالا بسبب صعوبة نطق حرف الخاء لدى سكان هذا المكان.

والذي أطلق اسم "جزر القمر" هم العمانيون الذين فتحوها ونشروا الإسلام فيها؛ حيث تذكر الروايات أن العمانيين دخلوها في ليلة مُقمرة فاتفقوا على تسميتها "جزر القمر"، لا كما يدعي الفرنسيون أن اسمها "جزر الكمر".

وأذكر أنني عندما كنت ملحقا ثقافيا في القاهرة زارني طالب من جزر القمر وقال إنَّ أجداده من عُمان وأنه يحلم بدراسة العلوم الشرعية في بلاد أجداده. وقد قمت بمخاطبة الجهة المعنية للنظر في إمكانية إلحاقه بمنحة لدراسة هذا التخصص.

وكان للعمانيين رحلات ملاحية لغرض التجارة، انطلقت من موانئ صحار وصور ومسقط وسمهرم وغيرها من الموانئ العمانية إلى الصين والهند وبلاد الرافدين ومصر وأفريقيا محملة بالبضائع العمانية جالبة معها ما تشتهر به تلك البلدان.

وفصل صديقنا الباحث حمود بن حمد الغيلاني في كتابه "أسياد البحار" الحديث عن الكثير من هذه الرحلات.

 

ونود التأكيد هنا أن الملاحة والتجارة هما من أهم الأمور التي ساعدت العمانيين في رحلة البحث عن الرزق، وبخاصة قبل ظهور البرتغاليين وقبل الدخول في رحلة البحث على الصعيد الخارجي فإننا نود أن نشير إلى أنه كانت هناك رحلات داخلية للعمانيين داخل الوطن الأم عمان، فرحل الكثير من العمانيين إلى بعض المدن المنتعشة تجاريا أو البنادر كصحار وصور مسقط و نزوى والرستاق وصلالة بحثا عن الرزق. وقد أشرنا إلى ذلك في بحثنا المنشور عن صحار في كتاب "صحار عبر التاريخ" الذي طبعه المنتدى الأدبي.

ومحطتنا التالية هي الرحلات إلى زنجبار التي كانت من خلال فترات زمنية مختلفة وهو ما يطلق عليه الهجرات العمانية إلى زنجبار وشرق أفريقيا التي كان يقصد منها الرغبة في الاستقرار والعيش في الوطن البديل واختلف الباحثون في هذه الهجرات وخصوصاً تلك التي تمت بعد السيد سعيد بن سلطان وزراعة القرنفل التي كانت نقلة نوعية في مجالي الزراعة والتجارة،

فبينما يسميها بعض الباحثين الغربيين بالاستعمار العماني "Omani Colonization" يسميها بعض الباحثين العرب والعمانيين بالفتح الإسلامي العماني لزنجبار وشرق إفريقيا؛ أي أن الغرض منها كان نشر الاسلام بمعنى أن الغرض كان غرضا دينيا بحتا. والذي نود التنويه إليه هو أن هذه الهجرات بدأت منذ وقت مبكر يعود إلى زمن النباهنة الذين هاجر بعض أمرائهم إلى شرق أفريقيا بعد اختلافهم ونشوب الحرب الأهلية بينهم واستقرارهم هناك.

وقد تكون بدأت مع الفتحوحات الإسلامية لشرق أفريقيا التي شارك فيها العمانيون، وقد تكون قبل ذلك من خلال رحلات التجارة التي بدأت قبل دخول الإسلام بزمن طويل. كما تجب الإشارة إلى أن الرحلات أو الهجرات التي تمت مع السيد سعيد أو بعده تداخلت فيها عدة أمور ملاحية وتجارية وإن طغى جانب البحث عن فرص جديدة أو حياة واعدة في الوطن الجديد.

وقبل الدخول في الحديث عن الرحلات العمانية لدول الخليج وبعض الدول العربية لطلب الرزق قبل عام 1970م- وخصوصا إبّان حكم السلطان سعيد بن تيمور- ارتأينا الحديث عن الوظائف والمهن والحرف التي كانت متوفرة في هذا العهد. ومن هنا يمكن القول إنه كانت تتوافر بعض الوظائف القليلة في مؤسسات الولاة والعسكر والعاملين معهم والقضاة والعمل في والجيش الشرطة الذي كان متركزا في العاصمة مسقط والبريد ووظائف العاملين في اللاسلكي والبرقيات، والتي عادة ما تكون في مكاتب بعض الولاة ووظيفة المعلم التي كانت محدودة جدا في المدرسة السعيدية في مسقط و صلالة ووظيفة العاملين في الجمارك التي عادة ما تكون على الحدود البرية والبحرية وفي الفرض كفرضة صحار وغيرها، ووظائف المجال الطبي في مسقط وصحار وصلالة التي عادة ما يكون لوظيفتي الممرض والمضمد فيها نصيب للعمانيين.

وكان العمل في حقول النفط في الصحراء من الأعمال التي كان يعمل بها سكان هذه المناطق وفي أواخر الستينات حيث اكتشف النفط في هذه الفترة بكميات تسمح بالتصدير وكان للعمال من غير المتعلمين نصيب في هذه الحقول ممن يكون الدور لهم في أعمال الحفر والأعمال التي عادة لا تحتاج إلى المهارة والتعليم.

يُشار إلى أن محاولات التنقيب عن النفط بدأت عام 1925، ولم يتم التصدير إلا في أواخر الستينيات، بسبب الصراع الداخلي في عُمان، وبسبب بعض الاضطرابات العمالية التي كانت تحدث بين الفترة والأخرى وخصوصا فترة التصدير التي أشرنا إليها.

والذي ذكرناه هنا هو استعراض لمعظم الوظائف التي كانت متوفرة في المؤسسات الحكومية التابعة للدولة.

وإذا انتقلنا إلى الحِرَف والمهن التي مارسها العمانيون واشتغلوا بها في هذه المرحلة فإن الزراعة وصيد الأسماك والتجارة والرعي من أهم المهن التي اشتهر بها العمانيون وهناك الحرف التقليدية كصياغة الخناجر والذهب والفضة والحرف الأخرى، والصناعات الفخارية التي اشتهرت بها بهلاء ونزوى والرستاق وبعض المدن والقرى العمانية.

حتى إن قبيلة العوامر اشتهرت بحفر الآبار والأفلاج في شمال عمان الداخلية كما أشار إلى ذلك جي إس بيركس في كتابه الصغير الذي طبعته وزارة التراث القومي والثقافة (سابقًا) قبل سنوات طويلة. كما نود أن نشير إلى أن جميع المهن والحرف كان يعمل بها عمانيون في أواخر الستينيات إلى بداية السبعينات من القرن العشرين، كالمطاعم والمقاهي وأعمال البناء والنجارة والكهربائيات وميكانيكا السيارات وقيادة السيارات (الدريول) الذي كان يرافقه في العادة المساعد (المعيوني) والمختصين في إصلاح مكائن الديزل الموجودة في النخيل القريبة من البحر على ساحل الباطنة.

وأذكر أنني كتبت في مقالة عن صحار نشرتها في مجلة العربي الكويتية عن الحاج/ سعيد بن حميد المصاب بشلل نصفي في الجزء الأسفل من جسمه، وأتذكر عندما يرسلني والدي لطلبه للحضور لإصلاح مكنية (الليستر) البريطانية الموجودة في النخل المملوكة لنا فننزله إلى حفرة المكنية ويبدأ في تفكيكها قطعة قطعة ليصل إلى القطعة التي تحتاج إلى تغيير.

وأذكر أنه كان ينتقل لإصلاح المكائن (المولدات) المائية في صحار وغيرها من الولايات القريبة على حمار.

كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك