خلوة الراعي

سعيدة البرعمية

صباح يوم بهيج من أيام تموزالجميلة، جاءت طفول إلى عمها تطلب منه السّماح لها بمصاحبته في الرعي، رفض طلبها كونه سيذهب بالأغنام بعيدا والمكان وعرّ. أصرّت على طلبها، قائلة:  (آددي هفداك، عك لقد شك)؛ أيّ، عمي فديتك أريد الذهاب معك. 

(مار كلث هير إيش). أيّ، إذن استأذني والدك.  أخذت تعدو نحو أبيها تستأذنه للذهاب مع عمها، رجعت وابتسامة عريضة على وجهها، وهي تقول: (عور هِني هير عش تقد قد). أيّ، قال لي إن أردت الذهاب معه فاذهبي. (مار نكع). أيّ، حسنا تعالي.  

أخذا يسرحان بالأغنام بعيدا ويرددان بين حين وآخر : وؤؤ حيه  وؤؤحيه، إلى أن وصلا المكان المناسب لرعي ذلك اليوم. كانت سعادة طفول لا توصف، تضحك وتمرح مع صغار الغنم، تركض ويركضون خلفها، فتصرخ: آددي. أيّ، عمّي  - بك عوك هش سكف أيّ، قد قلت لك اجلسي.  

بعد صلاة العصر، جلس القرفصاء على قمة جبل يقرأ خارطة الجغرافيا المفتوحة أمامه  بصفحة واحدة ممتدة  دون هوامش، تكوينات صخرية تحمل صورا جميلة، لا تستشعرها إلا عيون ترعرت في عمقها بين طين وشجر، على نار وحجر، نظر للوادي أسفله، رآه ينساب باخضراره كشلال منهمر من أعلى الجبل، انتشرت الأغنام في ربوع المرعى، خُيل له أنّ بنت أخيه التي تشاركه الرّعي وتتمرجح على أغصان الأشجار، أنها تشدو بصوت النانا؛  فعاش اللحظة نانا نانا بصوت طفلة المراعي الفسيحة.    استباحه المشهد مع الخيال، وصبّا على جوارحه  دلوا من المشاعر، رفع رأسه للسماء مطلقا العنان لروحه، وارتفع عاليا عن جسده. شعر بدنو السحابة منه، بدأ الرذاذ يتساقط برشاقة مع هبوب النسائم، أمطرت، وابتلّ وجهه بالمطر؛ فسمح لبعض دموعه أن تجاري قطرات المطر. فامتزج دمعه بدموع السحابة التي أبكتها مشاعره. أخذ الغنم بالابتعاد عن المكان؛ فهي لم تعد تسمع صوت الراعي، والمطر أخذ يزداد، وهو والبنت كلّ منهما في شأن.

عاد من رحلة المشاعر، متذكرا ملامحه القاسية، التي يُملي عليه العُرف ألاّ يبوح بها، فقام منتفضا يردد: بوبا بوبا بوبا  نظر حوله يمنة ويسرة يتفقد الغنم قائلا: بر آرن هوطن سن؟ أطفول آرن؟ أيّ، أين الغنم؟ يا طفول الغنم؟ أدعك لئ، آنفات بون سن. أيّ، لا أدري قبل قليل كانت هنا. آشغي توب أر أغنفن، هس غودت وبلست أُوسئ. أيّ يا بنت أخوي لقد ضيعنا غنمنا لمّا بدأت الشمس تغيب والمطر ينزل.  غدو نحبا هسن، أيّ، تعالي نبحث عنهن. أخذا يبحثان ويرددان بصوت عال: وؤؤحيه، حي حي، حي حي لم يجدا شيئا، أظلم المكان ولم يعد بأيديهما سوى الرجوع، رجعا والخيبة والخوف على الغنم قد استبد منهما، سأله أخوه أين الغنم؟ فقال: كلّش من طفول أنشت تئ آرن. أيّ كله من طفول أنستني الغنم.

ذهبت طفول ووقت خلف أمها تقول: ذن أر شه يغفل، سكف دياك لخن أُوسئ بهي غضنك مش، بنشك آرن. أيّ، هو يسرح جلس تحت المطر يبكي وأنا تعاطفت مع حالته ونسيت الغنم. أخاه: إنه عورش؟ دياك!  تبك لك آمك. أيّ ماذا قلت؟ يبكي! ثكلتك أمك. طفول: أهن والله أر آيني. أيّ، نعم والله لم أكذب.

نزل صوت طفول صاعقة على مسمعه، زلزلت كلماتها الأرض تحت قدميه، ابتعد عنهم يقول: دعك حل لرعى هكم آرن آكم، والله الإرعسان زيد. أيّ، لن أرعى لكم غنكم، والله لن أصطحبها للمرعى بعد اليوم. 

جلس بعيدا عنهم، بيده سكينا صغيرا يُقلّم به طرف عصاه، في حالة من القلق والاضطراب، ليلة مقيتة مرّت بثقلها، وفي الصباح وجدوا ما أبقت منها الذئاب في مغارة بطن الوادي.

*****************

 ترجمة الألفاظ:

نانا: أحد الفنون القولية المشهورة في محافظة ظفار. 

وؤؤحيه وؤؤحيه/ حي حي: ألفاظ يتلفظها راعي الغنم أثناء الرعي. 

بوبا بوبا: غناء الرعاة في محافظة ظفار.