كلّهم عبدُ الله

 

فاطمة اليمانية

 

"حتّى لو أخذتك الأيام بعيدًا.. وكان ما بيني وبينك فراق بحجم مجرّة.. ستبقى حاضرا في قلبي وذاكرتي". نبال قندس.

------------

أبلغوه بأنّ امرأة تُقيم في المقابر ترفض مُغادرة المقبرة، فطاف المقبرة الفسيحة باحثًا عنها، وبعد نصف ساعة من المشي بين القبور؛ اكتشف القبر الذي تقيم فيه أمّ عبد الله، حيث فرشت سجّادا ووضعت مسندا وغطاءً، كأنّها تقيم في بيتها؛ وعلّقت صورة ابنها، وزينت الضريح بالورود، فسألها مندهشاً:

  • كيف تقيمين في القبور؟

فردّت عليه:

  • لن أترك عبد الله وحيدًا!
  • لكنّه ميّت.
  • بل حي!

وأخبرته بأنّه يزورها في الحلم.. وتستيقظ صباحًا وذراعها تؤلمها؛ لأنّه خرج من القبر وتوسّد ذراعها!

ثم دخلت في نوبة بكاء على فقيدها، الذي رحل عنها أيام العيد، ومنذ أحد عشر عامًا وهي تقيم في المقبرة، رافضة تركه حتّى لا يخاف!

  • هو في الجنّة.

وفي قلبها.. وفي ذاكرتها.. وجزء من كيانها الذي يُخَيِلُ لها أنّه يلهو مع الأطفال.. ويعفّر في التراب؛ فيسرع لها شاكيًا من الآخرين ويخبرها بأنّهم آذوه.. وأهالوا التراب عليه!

فتتذكر أكوام التراب الّتي أهيلت على جسده في المقبرة.. أو في قلبها!

فمنذ دفنه وهي تحمل قبرًا على هيئة قلب، أو قلبًا على هيئة قبر!

يختبئ فيه عبد الله بملامحه البريئة؛ فيكبر أقرانه، ويدخلون عليها للتحية؛ فتراه في همساتهم.. في ملامحهم.. وفي أحاديثهم العذبة عندما يقول أحدهم:

  • لو رأيت اللّص لقفزت عليه وهشّمتُ رأسه!
  • لو رأيتُ اللصّ!

لكنّه أتى وسرق عبد الله ولم يأتِ أحدهم ليوثقه، أو يربطه، أو على الأقل ليبعده!

تسلل خِفْية، وسحبه أمام عينيها ولم تستطع التصدي له..

كانت مشلولة واقفة أمامه عاجزة عن النطق، أو الحركة.. أو الإمساك بيده المُستّجدية التي تلوّح مستغيثة:

  • أنقذوني!

فرحل ولم ينقذه أحد..

ولم ينقذها أحد من وجعها وهي تشاهد أحد برامج الواقع التي تحكي قصّة فقدان أمّ عبد الله لابنها، وتعيش تفاصيل حزنها كأنّها هي!

أغلقت الهاتف ليسرقها لصّ جديد اسمه "الواقع" حين وقفت عاملة المنزل متسائلة:

  • ماذا أعدّ للغداء؟
  • أي شيء.. اطبخي ما تشائين..

فنظرَت لها بامتنان:

  • أنتِ طيبة جدّا.

ولم تدرك العاملة أنّ الحياةَ لم تترك لها خيارا للشرّ حتّى تختارَ ألّا تكون طيبة؟!

أو ربما في المواقف التي يجب أن تكون فيها شريرة على مقاس تفكير العاملة؛ تجد بأنّ الدنيا لا تستحق كل هذا العناء!

فالشرّ في ذهن العاملة أن تحرمها ربّة المنزل من استخدام الإنترنت! أو من إضافة الكثير من الفلفل إلى الطعام، أو الزيت أو السكر..

لكنّها لا تجد ضيرا من هذا النوع من الطعام؛ فما قيمة الصحة والعافية لمن تعيش على طريقتها؟!

وما معنى ارتفاع السكر أو الضغط؟! فالمستشفيات كثيرة! والأمور دائمًا على ما يرام، وعال العال!

حتّى الصغار يصفونها بالطيبة، حين يأتون لزيارتها؛ فتُقَدِم لهم الحلويات، وكل ما يستهوي مزاجهم، ولم يحدث أن أبعدت طفلاً عن شيء يرغب في تناوله كما تفعل الأمّهات الشريرات البارعات في تعذيب أطفالهن، كما كان يقول لها عبد الله عندما أبعدت عنه علبة الحلويات:

  • أنتِ شريرة!
  • كثرة الحلويات مضر بالصحّة!

فبكى ليلتها بعد أن هددها بترك المكان حالما يكبر! ليأتيها الردّ من السماء فيغادرها باكرا؛ كأنّه أراد معاقبتها على ما فعلته معه.

منذ ذلك اليوم حرصت ألّا يبكي طفل أمامها، وفي ذروة اشتياقها لعبد الله ترسل للجارات:

  • أرسلوا الأطفال..

فيدخلون المنزل ويشيعون أجواءً من البهجة والفرح، ويحمل كل واحد منهم حصّته من الحلويات وهي تنظر إليهم باحثة عن وجه يشبه وجه عبد الله!

فيتهيأ لها بأنّ الوجوه القادمة تحمل ملامحه! نبرة صوته.. وشيئاً من شقاوته وهو يصطدم في الباب أثناء مشيه مسرعا!

وبعد مغادرتهم تعود إلى الداخل مُعتقدة أنّه سبقها؛ لتجد مكانه خاوياً، وكل ما هنالك صورة معلقة على الجدار في برواز أسود!

فتسرع العاملة لمسح الصورة عندما تشاهد نظراتها الساهمة للصورةِ ظنّا منها أنّ تنظيف الزجاج يخفف من وجع الفقد!

تبتعدُ العاملة ثمّ تعود إليها حاملة صورة أطفالها:

  • أولادي.
  • ما شاء الله.. تبارك الله.

ثم تحكي لها قصصاً عن شقاوتهم، وعنادهم، بينما تتخيل عبد الله في كلّ مشهد، وكل حكاية.. بل امتدّ الوهم بها لتشاركها قصصًا مشابهة عن شقاوته وعناده؛ وكأنّه حي.. ثم تتذكر موته وتصمت بعد أن تطغى نظرات الشفقة على وجه العاملة؛ فتطالب العاملة بالذهاب إلى النوم، وتشعر تجاهها بالامتنان، لأنّها تحاول التخفيف عنها بسرد القصص؛ لتمرّ ليلة أخرى تجترّ فيها أحزانها! ذات صباح استيقظت مبتهجة؛ لأنّها رأت في منامها عبد الله يجوب أرجاء المنزل، بل شعرت بأنّ ما شاهدته واقعا وليس حلما؛ فهي تتذكر تفاصيل الحلم، وصوت عبد الله وكلماته بوضوح شديد.

فاقتربت منها العاملة بعد أن سمعت صوت جرس الباب:

  • أبو عبد الله!

تأفّفت.. وسحبت خطاها..

 كان زوجها قد عاد من إحدى مغامراته، ومعه ثلاثة أولاد:

  • لماذا عدت؟
  • اسمعي.. أمهم طلبت الطلاق وقالت خذهم، وطرأتِ في بالي، لأنّك تعيشين وحيدة على ذكريات المرحوم، فما رأيكِ أن تكوني أمّهم؟

حدّقت في الوجوه، كانوا يشبهون... نعم يشبهون عبد الله!

تشبث أحدهم بطرف ثوبها، مستجديًا:

  • أريد ماءً..

فطلبت من العاملة إحضار الماء، وقال زوجها:

  • هل سنقف طويلاً على الباب؟!
  • لن تتخطى عتبة الباب ما حييت!
  • حسنا، ما رأيك في العرض؟!
  • فاجأتني!
  • منذ أن عرفتكِ وأنتِ متفاجئة! ومذهولة!
  • اتركهم، وإذا لم أتكيف معهم عُد إليهم.
  • هل ترغبين في معرفة أسمائهم؟

 أدخلتهم، وأغلقت الباب في وجهه!

ذلك الرجل الذي سئم من حزنها ودموعها فغادر وتزوج في منطقة بعيدة؛ وها هو الآن يقف على عتبة الباب طالبًا منها تربية أولاده، ولا شك أنّه عثر على حياة جديدة، لأنّ العلاقة بينهما انتهت بوفاة عبد الله، وماتت معها كل سبل التفاهم والتعايش، ليقرر الرحيل، وتبارك ابتعاده، خاصّة أنّه رجل فوضوي.. أنانيّ.. لا يقدر الحزن ولا الألم! دخلت إلى الصالة ورأت أولاده جالسين في هدوء وسكينة.

 كانوا ثلاثة أولاد بين الواحد والثاني عاما أو عاما ونصف العام، وكأنّهم توائم ويشبهون عبد الله كثيرا!

جلست قربهم، وتسلل إلى قلبها شعور بالرحمة، وسألت أكبرهم عن اسمه؛ فقال لها:

  • عبد الله!

والثاني.. عبد الله! والثالث.. عبد الله!

فاتّصلت بزوجها؛ لتعرف قصة الأسماء، وأخبرها أنّه سمّى الأول عبد الله، والثاني عبد الوّهاب، والثالث عبد السلام، لكنّ أمّهم ذات المزاج المستّفَز دائمًا! تناديهم جميعًا باسم عبد الله! وكأنّها مصابة بلوثة في دماغها أنستها أسماء الأولاد؟! ثم سألها:

  • هل تعتقدين بأنّها مصابة بذهان.. مثلا؟!
  • لا أعتقد شيئا! لا شأن لي بكما!

ثم تحدث عن ابتلائه في الحياة، فزوجاته يغضبن لأتفه الأسباب رغم ظُرْفِه وخِفْةِ دَمه! فأغلقت الهاتف في وجهه وهو يردد:

  • إن لم يكن بكَ عليّ غضب فلا أبالي!

 

(النهاية)

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

A7lam.alyamam@gmail.com

 

 

تعليق عبر الفيس بوك