سعيدة البرعمية
أعطني الناي وغنِّ // فالغنا سرّ الخلود
وأنين الناي يبقى // بعد أن يفنى الوجود
كتبها جبران خليل جبران، وغنتها فيروز، ونزلت في ستوري حالتي على الواتساب، أخذني صداها بعيدا بصوت فيروز حيث لا أحد، ورغم ذلك لم أشن لها حملة إنشائية " تحت مسمى وحّد الحالة "، فهي قناعتي، تعجبني لا تعجب غيري، ومع ذلك غزى المؤمنون بمعجزة الحالة حالتي، فانهالت عليها طعناتهم كونها مُختلفة؛ فهي لم تكن سبيلاً للهداية ولا قلبا للدعاء ولا منبهاً لصلاة الفجر، ولم تكن منبرالوصايا العشرلخطبة الوداع، ولا نافذة للعلم والآداب، بل خضعت لسلطة اضطراباتي، وأعلنت عصيانها للعبارة الآمرة "وحّد الحالة".
هناك من يجعل (ستورياته) كموسوعة قيّمة، ويصل بها لدرجة عالية من الرضا النفسي، وفي المقابل يستبيح النهش في لحوم الآخرين، ويعمل جاهدًا على إطفاء شموعهم ثم يشتكي ظلمهم.
من باب أولى ألاّ نجعل من أنفسنا أوصياء على الآخرين، ستوري الحالة ليس مرقاة يُهتدى من خلاله، ولا معهدا للأبحاث كي نقيم عليه دراسة تبحث تحليل الشخصيات، بل هو وهم من الكمال وصل إليه البعض يبث من خلاله مثالية تائهة.
بين رمشي وموضع كحلي تقبع شخصيتي، لم أسمح لها بالتغلغل في عينيّ كي لا يحللها غيري، فكيف لها أن تُحلل وتقام عليها الأبحاث من قبل عشّاق تحليل الحالات؟!
تعجبني حالتي كما هي، ليس بالضرورة أن تعجب غيري؛ فهي لا تُبال بالمثالية ولم تلبس يومًا مقاسًا ليس مقاسها، يعجبني حجم اللخبطة العارمة التي تقتحمها من حين لآخر؛ فلن أجعلها تخضع لمسار مُعين.
هل جرّبنا أن نجلس العصر بين جفنات العنب، وأن نفترش العشب ليلا، ونلتحف بالفضاء، هل جرّبنا أن نزهد فيما سيأتي ونتناسى ما مضى كما فعل جبران؟
الحياة قصيرة، لسنا مثاليون ولا نماذج يُحتذى بها ولا أوصياء على أحد.
ما أجمل أن نجعل القلب مكانا للدعاء، والأفعال والأقوال تفصح عن شخصياتنا، ونخفف كثيرًا الإيمان بالواتساب، ما أجمل ألاّ نشنّ حملة أو وسيطا لمؤازرة الدعاء ووصوله للسماء، ما أجمل أن نعيش دون تحليل للآخرين ونغتنم أوقاتنا؛ فهي تمضي دون أن تعود.
هل تخذت الغاب مثلي // منزلا دون القصور
فتتبعّت السّواقي // وتسلّقت الصخور
هل تحممّت بعطر // وتنشفّت بنور
وشربت الفجر خمرا // في كؤوس من أثير
لو خرجنا للفضاء كما فعل جبران لما قبعنا في ستوريات التطبيقات، ولو جعلنا خيالنا ينطلق ويمتد بعيدًا كصوت فيروز الذي فشل (الديسيبل (dBفي قياسه لخرجنا لعالم لم يُخلق على الأرض، ولعشنا شعور المتحمم بالعطر، والمتنشّف بالنور الذي أشار إليه جبران.
لو حرصناعلى شرب ذلك النوع من الخمر الذي يُشير إليه جبران، لاستشعرنا حجم الصباح الكبير الكريم من حولنا، لكننا حرصنا على صلاة ركعتين يغشاهما النعاس، ونعود فورًا لتخوتنا وننخمد، حرمنا أنفسنا السكرالعليل بنسمات الفجر في كؤوس من أثير.
أعطني الناي وغنِّ // وأنس داءً ودواء
إنما الناس سطور // كُتبت لكن بماء
يدعونا جبران أن نخرج من أمراضنا وآفاتتا ونصلي بعيدا عنها؛ فالناس ماهم إلاّ سطور من الحكايات التي كتبت بالماء؛ فسرعان ما تزول.
هل جربنا مرة أن نمسك الماء في قبضة أيدينا؟
عن نفسي، جربت مرارا، وباءت محاولاتي جميعها بالفشل، كان يُخيّل لي أنّ قبضتي تعرّضت للخيانة من قبل أصابعي؛ فسمحت للماء بالعبور خلالها، ليعود مجددًا إلى ساقيته بعد اختناقه في قبضتي؛ لكنّي أدركت أنّ ما قاله جبران هو الحق، لم تخنّي أصابعي، إنما هي حقيقة الماء وحقيقة ما خُلق من ماء.