بين الانفتاح الثقافي والعجز الحضاري!

 

منى الغزالي

managementmeme5@gmail.com

 

لو تأملنا عالمنا برهة، سنجد فيه العديد من التناقضات والتخبطات الفكرية والثقافية التي تجلت في شتى مناحي الحياة؛ إذ غدت التطورات والتغييرات جزءًا لا يتجزأ من حياة المُجتمعات العصرية، ومع عمق تلك التغييرات وتداخلها وتعدد أبعادها أصبح من الضروري جدا أن نعي ماهيتها وأبعادها الأيدولوجية وكيفية الاستفادة منها بالشكل السليم الذي يخدم البناء الاجتماعي ويقوم عليه مجتمع وظيفي يمتلك مقومات تؤهله للتغيير والتقدم الحضاري.

ولعلَّ دخول عالمنا العربي إلى عصر العلم دون الجاهزية أو الاستعداد الكافي لمواجهة التحديات والمخاطر الناجمة عنه هو أحد أهم أسباب تشكل تلك التناقضات والضغوط متعددة الأهداف والأشكال، حيث زادت موجة التبعية الفكرية الثقافية للدول الغربية وانعكس ذلك على تعميق أزمة الهوية وما صاحبها من آثار على الصعيد المجتمعي. فالانفتاح الثقافي دون وجود المعايير والضوابط والرؤية والهدف، لن يساعد على بناء مجتمع عصري، وذلك لأنه يدعو إلى التغريب والتبعية، كما إنه يؤدي إلى الانغلاق والجمود، والعكس صحيح.

وعلى الرغم من التَّقدم العلمي والتقني في عصرنا الحالي والذي يفترض من خلاله أن تصل مجتمعاتنا العربية إلى درجة من النضج والوعي الثقافي الذي يُمكنها من تحقيق الموازنة الصحيحة مع المعطيات العصرية دون التجاوز لمقاصد وأصول الدين، إلا أن البعض لم يحقق هذه المعادلة بالصورة الصحيحة، فقد شكلت تلك التطورات نقطة انطلاقة في نمو وتداخل الثقافات حتى اكتست طابعاً آخر وهو طابع السيطرة والغزو، وهو ما أدى بدوره إلى عملية ذوبان الطرف الأضعف.

توهمنا في بادئ الأمر أن التقدم والتطور في التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة وشيوع الأجهزة والأدوات التي من شأنها أن تقرب العالم ببعضه سيكون السبب في نمو وتقدم وتغيير حضاري، ذلك أن التطور والتقدم التكنولوجي يلازمه بالضرورة تراجع العجز الحضاري، ولكن ذلك لم يحدث! بل إن الحياة الاجتماعية تبدلت والمجتمعات البشرية العربية أصابها تقلب واضح، حيث ساهم التقدم التكنولوجي في ضرب العلاقات الاجتماعية، وإنتاج قيم واتجاهات وأفكار لا تتفق عليها البنية المعرفية الإسلامية، مما شكل تناقضاً في شخصية الفرد المسلم وظهور سلوكيات غير سوية متأثرين بها من الغرب.

والتأثير امتد ليشمل المنظومة الثقافية والهوية مستهدفة بذلك "الشباب" ليكون الأساس في إحداث تلك التغييرات، وذلك لأنهم الفئة الحساسة في كل مجتمع، والذي من شأنه أن يكون معول بناء/ هدم لمجموعة من القيم والأفكار والالتزامات الأخلاقية، كما إن هذه الفئة قد تقترن بمفاهيم ومدلولات اجتماعية/ نفسية أخرى قد تتسبب في مرحلة انتقال وتحول على عدة أصعدة. ومن ذلك إما أن ينجح الشباب في تجاوز المشاكل المعوقة أو تنشأ لديهم مشاكل وأزمات قد يصعب حلها أو تجاوزها خصوصاً تلك التي قد تتأصل على مستوى الهوية.

لا شك أن الاستعداد للمرحلة المقبلة بحاجة ماسة إلى توحيد القدرات وتقديرها والاجتهاد كل في مجاله واختصاصه، ومشاركة أصحاب المستويات المعرفية وبالأخص فئة الشباب منهم، حتى تكون المحفز الأنسب والأقوى لفتح وإحداث آفاق حداثية تجديدية بما يتناسب ويتوافق مع فكرنا الإسلامي، ذلك أن الشعوب الساكنة الجامدة ستتأخر عن ركب التطور الحضاري وستعتمد على الغير في كل شيء؛ بل ستتجلى احتمالية الجهل والحمق في تطبيق السلبيات أكثر من الإيجابيات، وخير مثال على ذلك اللبس الحاصل في الفضاءات الرقمية والخلط بين مصطلحات عدة ومنها الانفتاح الحضاري والانفلات الأخلاقي وكيف أنهما يرتبطان ضمن منظور ضيق لدى البعض.

الواقع الجديد يفرض تحدياته، لأننا في زمن إن لم نستطع التمدد فيه، فهناك من سيقتحم المنطقة ويتمدد فيها. فواقعنا اليوم يستوجب التغيير والانفتاح وهو أمر حتمي لا مفر منه، كما إنه من صميم الهوية الإنسانية، وهو ما يحض عليه ديننا بقوله تعالى "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" (الرعد: 11).

من هنا لابُد من تحسين مستوى التعامل مع الانفتاح والتحديات المصاحبة له، فالبداية من تهذيب وتحسين أنفسنا والاستناد على منطلقات ثقافية وثوابت معينة لمسايرة الركب الحضاري وإحداث التغيير المنشود. كما إن الجزء الأساسي في نهضة وتقدم أي دولة يتعلق بالثقافة، إذا استطعنا أن نُصلح بعض الإشكاليات والأخطاء في مجتمعاتنا وأن نعدل من المنظور الثقافي لبعض الأفكار بعيدًا عن التهجم نستطيع أن ننهض فيما بعد بحضارتنا الإنسانية.

ولذا وجب التنويه والتوجيه بأحكام إلى إصلاحات داخلية تتمثل في تحديد وتشكيل ثقافتنا والدفاع عن خصوصيتها، وذلك عن طريق بناء قواعد معرفية يتم القياس بها واكتساب أسس واتجاهات تساعد على الانخراط في عصر العلم والانفتاح الحضاري ولكن كمؤثرين مساهمين نفقه مضامين الثقافات الأخرى ونستفيد من الطفرة العلمية مع الحفاظ على أصالة هويتنا وثقافتنا وأخلاقنا، وصون المسار الذي رسمه لنا سلطاننا الراحل- طيب الله ثراه- بقوله "إننا نعيش عصر العلم ونشهد تقدمه المتلاحق في جميع المجالات، وإن ذلك ليزيدنا يقينًا بأنَّ العلم والعمل الجاد هما وسيلتنا لمواجهة تحديات هذا العصر وبناء نهضة قوية ومزدهرة على أساس من قيمنا الإسلامية والحضارية".

تعليق عبر الفيس بوك