الحافة.. وجدان وليست ذاكرة

 

خالد بن سعد الشنفري

 

ولدتُ وترعرعتُ في الحافة، عشت 10 سنوات من طفولتي الغبراء فيها قبل بزوغ عصر النهضة المُباركة علينا، وسط بيوتها وبين أزقتها وحاراتها، ودكك جلسات مساجدها وحلقات تجمعات شواطئها، حيث كان الزمن حينها قد توقف عن التطور الحضري لسنوات خلت قبل ذلك إذا لم يكن لعقود، وهذا بالطبع لم يكن حال الحافة وحدها، بل ظفار وعُمان قاطبة للظروف التي نعلمها جميعًا كعُمانيين.

لم أطلع من الحافة إلا بعد العام 1986 بعد أن تمكنت من بناء بيتي الخاص في منطقة السعادة (وهي تسمية المغفور له بإذن الله السُّلطان الراحل قابوس بن سعيد)، وظل العديد من أهل الحافة بها والكثير منهم ظلوا يُحافظون على صلاة الجمعة بجامعها حتى بعد نزع الملكية وتسويرها بعد إخلاء السكان.

نزع ملكية مباني الحافة للمنفعة العامة- تلك المنفعة- التي كان قد تمَّ التوافق عليها مع أهلها بعد توجيهات المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لترميمها لتظهر بالصورة التي تليق بتاريخها، وكونها جوار قصر الحصن العامر، وامتدادا طبيعيا له وقبل صدور مرسوم نزع الملكية وضمن ذلك في صلب المذكرة الإيضاحية للمرسوم، والتي تضمنت بوضوح وجلاء لا يحتملان التأويل أن تُنفذ للمنطقة التراثية الحماية اللازمة من ناحية البحر، وإنشاء قنوات تصريف مياه الأمطار التي تهطل على صلالة بغزارة بعد كل عدة سنوات في مواسم مُعينة، أهمها الحيمر والشلئ، مع ترميم القائم من مبانيها العتيقة.

الحافة كانت بندر ظفار الرئيسي من ضلكوت غربًا إلى سدح وحاسك شرقًا، كان بها فرضت ظفار (الجمرك) التي منها وإليها تتم تجارة ظفار كلها الساحل والجبل والنجد. وعلى شواطئها كانت تُستقبل السفن الخشبية للتجارة، والبضائع ونقل المسافرين بين مختلف مناطق عُمان وعدن ودول الخليج العربي، وحتى الهند وأفريقيا، وأيضًا قوارب البدن الشراعية من المنطقة الشرقية؛ حيث الأشخرة وصور لتبادل تجارة البضائع مثل أجربة التمر والبسور وتنك الدبس مقابل أسماك الصافي (السيسان) المجففة، والصفيلح والنارجيل اليابس وغيرها.

ضاغية (السردين) الحافة الشهيرة، كانت تطعم الضرع والزرع والبشر، وتقوم عليها حياة ورزق لظفار وتجارة وصناعة من صناعة سنابيق الضاغية الكبيرة الحجم وحبال وشباك الضاغية (الجريف).

الحافة بمساجدها الستة العتيقة، وجامعها الكبير (جامع الشيخ عبد الله) الذي تأسس منذ قرون مضت، والتي كانت تعبق منها النفحات الروحانية من ذكر الله والتلاوة، وخصوصا في ليالي رمضان والاحتفالات بختم القرآن بكل من مساجدها الستة لكل مسجد يوم يخصص لذلك، مع صوت المسحراتي (المفلح) الشجيئ، وبمدارسها الأهلية الأربعة المعروفة لحفظ القرآن والحديث واللغة العربية والحساب.

الحافة بمزارعها ومزارع القرض الشهيرة امتدادها، وبسوق الحافة الشهير (ماركيت الحافة) لتجارة اللحوم والأسماك والخضار والفواكه، وبساحة ميدان (غب) سمحان الشهير على شاطئها للمناسبات العامة، وأيضًا سوق في الفترة المسائية.

الحافة بصناعها المهرة المشهورين في النجارة، وتحفياتها والصياغة وتقنياتها وغزل القطن بأيدي النساء مع الترانيم الشجية على إيقاع مغازل القطن، وأيضًا غزل الحبال من ألياف ثمر نارجيلها، أما عن تجارها فحدث ولا حرج فقد امتدت تجارتهم إلى القارتين آسيا وأفريقيا.

الحافة ببنائيها المهرة(إستاد) بنائي القصور والمحايل المشهورين والمعروفين على مستوى ظفار. والحافة بزعاماتها وشيوخ السنن القبلية المعروفين فيها على مستوى ظفار قاطبة وعُمان، وبصماتهم موثقة لأحداث تاريخية عظام على مستوى عُمان.

وهذا ليس إلا غيض من فيض مما يُمكن أن يقال عن الحافة.

أفبعد كل هذا الموروث والتاريخ الذي تكون في منطقة الحافة نتركها تنهار أمام أعيننا لتصبح أثراً بعد عين؟!

إن كل من له علاقة اليوم بموضوع تطوير الحافة، وأوكل إليه ذلك ولا يُراعي هذا الموروث الحضاري للحافة في التعامل معه، يكون بذلك ناكرًا أولًا لرؤية وتوجهات باني عُمان الحديثة ومن ربط حاضرها بماضيها التاريخ- طيب الله ثراه- بل أُجزم أن من لا يُراعي ذلك؛ فإنه لا يحمل ذرة وفاء لموروثه أو انتماءً لعُمان.