ليلة التبراع

 

عبد الرحيم بونعيسات

باحث، ونائب رئيس فضاء الوساطة بالمغرب

 

في ختام برنامج الصالون الأكاديمي للجلسات الرمضانية، نظم فضاء الوساطة بشراكة مع رابطة كاتبات المغرب ليلة احتفائية وترافعية حول التَّبْراع، وذلك يوم 28 رمضان 1442، الموافق 10ماي 2021 ابتداء من الساعة التاسعة والنصف ليلا، والتي استضافت فعالياتها الضيوف، والمشاركين عن بعد عبر الغرفة الافتراضية الخاصة بفضاء الوساطة على منصة زوم، كما تابع نقلها على الحائط الفايسبوكي لفضاء الوساطة جمهور عريض.

وقد تم تسيير فعاليات الليلة من طرف الأستاذ عبد الفتاح الزين رئيس فضاء الوساطة، والأستاذة الباحثة عزيزة يحضيه رئيسة رابطة كاتبات المغرب. وشاركت في هذه الليلة كل من الأستاذة الباحثة العزة بيروك، إلى جانب كل من فاطمة الغالية الشرادي الراوية، والمسرحية الملقبة دستورة، والشاعرة خديجة لعبيدي الملقبة الناهة. واعتذرت الأستاذة الباحثة العالية ماء العينين لظروف قاهرة.

بعد ما افتتح الأستاذ عبد الفتاح الزين الجلسة، تناولت في البداية الكلمة الأستاذة عزيزة يحضيه، التي بينت السيرورة التي عرفها الاشتغال على فن التبراع، بوصفه موضوعا استثنائيا بامتياز، لما له من خصوصيات فنية، وجمالية، واجتماعية في الأدب الحساني، والتراث المغربي المشترك مع كل من موريتانيا، وامتدادا إلى شمال مالي لما تربط هذه المناطق، ومجتمعاتها من وشائج القرابة، والعلاقات الضاربة في عمق التاريخ. وقامت بتسليط الضوء على الأنشطة التي انتظمت حول هذ الفن الشعري ذو الخصوصية المتميزة في منطقة شمال إفريقيا، والعالم العربي؛ فذكّرت بالفعالية الثقافية التي انعقدت سنة 2014 ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، والتي اهتمت بالتجربة الأدبية المشتركة بين المرأة الحسانية المغربية، والمرأة الموريتانية بما تحمله من أبعاد قوية اجتماعيا، ثقافيا، وفنيا. وألقيت فيها إبداعات من فن التبراع، وشهدت تقديم عروض فكرية وفنية.

وأوضحت أن شعر التبراع مرجعية ثقافية نعتز بالانتماء إليها، ولها تشابه مع نمط فني بأفغانستان. كما قدمت بعض الأسماء البارزة في هذا المجال من قبيل الدكتورتين: العالية ماء العينين، والعزة بيروك. وبينت في افتتاحيتها، بعد أن شكرت فضاء الوساطة على الاهتمام، والالتفاتة لهذا الفن الأصيل، أن رابطة كاتبات المغرب تستهدف الانتقال بهذا الفن من المحلية الى العالمية، ومن المستوى الشفوي إلى المستوى المكتوب، عبر نشر دراسات، ودواوين من أجل صيانته من الضياع والنهوض به، بهدف تحقيق التراكم. وأشارت إلى أن رابطة كاتبات المغرب مع شركائها ومختلف المهتمين بهذا الصنف الشعري الفريد، ستسهر على ملف تثمين شعر التبراع. وهو الأمر الذي أقرته وزارة الثقافة. كما بينت أن التنوع الثقافي في المغرب يعكس غنى كبير، ومهم يجب المحافظة عليه وإثراؤه، وتعبئته في مختلف المستويات. إذ يمكن استثماره إيجابيا على المستوى الثقافي، حتى يتمكن هذا النوع الإبداعي من تجاوز التحديات التي تواجهه.

بعد ذلك أخذ الكلمة الاستاذ الزين الذي شكر بداية الأخت عزيزة على كلمتها. وبين بدوره أن الاهتمام بفن التبراع جاء بوصف هذا الأخير مكونا رئيسيا في الفسيفساء الثقافية، والفنية بالمغرب. لا يمكن التخلي عنه. وقد أبدعه المجتمع المغربي في إطار صيانة التنوع، واعتماده كمهيكل للهندسة المجتمعية ومكوناتها في إطار عيش مشترك يرعى هذا التنوع، ويثمنه، ويحترم الاختلاف ويشرعنه بعيدا عن أي إقصاء وتهميش. لأن هذا التنوع بمختلف مستوياته، وحقوله، ومواده، وتجلياته هو ما يجعل المغرب جسرا بين مختلف الوحدات الترابية، والإنسانية المحيطة به. فهذه التجربة الفنية الفريدة تحيل على مكون أساسي من مكونات البنية المغربية الغنية بروافدها المتفاعلة، والمتناغمة. ولفن التبراع مقابلات فنية في جهات مختلفة من العالم، كما أشارت إلى ذلك الأستاذة عزيزة يحضيه، مثل اللانْدي عند قبائل الباشتون، والذي يعتبر شعرا نسائيا بنفس مواصفات، وخصائص فن التبراع، إلى حد التماهي. غير أن (اللانْدي) هناك يعيش قمعا، وتضييقا بالموازاة مع ما تعيشه النساء في هذه المنطقة من تضييق. يصل إلى حد التجريم بالرغم من أقدميته هناك. فاللاندي ليس فنا طارئا في هذه المناطق. كما أن التبراع يشبه كذلك في بنيته التركيبية فن (الهايْكو). ناهيك عن أن التبراع كشعر نسائي بامتياز، يشترك في العديد من الخصائص مع عدد من الثقافات من قبيل فن الفادو Fado في البرتغال. والذي هو في أصله فن غنائي نسائي في الأصل. وكذلك فن (التروبايريتز trobairitz)، الذي انتشر منذ القرن 14 على يد شاعرات غنائيات عرفن بهذا الاسم، (هناك من يرى أن صفة (Troubadour) والتي أصلها من المفردة القديمة (Trobar) المشتقة من المفردة العربية "طرب". وهو فن كان في بدايته يؤدى بالبلاطات لجمهور النبلاء خاصة (بالأوكسيتانية occitane) ثم تحول بعد ذلك إلى شعر للطبقات الدنيا، يؤديه الفنانون الجوالون.

وبين على أنه كانت هناك خطة للعمل في فضاء الوساطة بتنسيق مع رئيسة رابطة كاتبات المغرب لتنظيم لقاء علمي ترافعي حول فن التبراع تحت شعار "شاعرية النساء في مواجهة العنف: فن التبراع نموذجا" إلا أن الظروف لم تسعف في عقد هذا اللقاء. واستدلّ رئيس فضاء الوساطة في إطار تسليطه الضوء على هذا النوع الفني، والثقافي كتجربة أنثوية، تشهد على قدرة المرأة على الإبداع الشعري الخاص بها، وتحدّي كل أنواع الرقابة التي تريد أن تبقيها قاصرة، بالروائية النمساوية (إلفريد ييلينك Elfriede Jelinek) الحاصلة على جائزة نوبل للرواية سنة 2004، والتي التقى بها أثناء زيارته لفيينا، بواسطة الفنانة التشكيلية النمساوية (سنين كوريث Sini Coreth)، وكيف أنها خصصت كل أعمالها في الترافع عن خصوصية المرأة ككينونة، من حيث الإحساس والتعبير عن وضعها الجنساني، بالرغم من مختلف معوقات، وعوائق التنشئة الاجتماعية. ولهذا اهتمت كامرأة مبدعة بالاشتغال حول هذا التعبير النسائي وخصوصيته في ارتباط بكينونة المرأة، ومن حيث مقاربة النوع. وقد أبدعت روايات عديدة في هذا الباب لعل أهمها "عازفة البيانو" التي حوّلها ميخائيل (هانكه Michael Haneke) إلى فيلم بنفس العنوان، والذي حصد ثلاثة جوائز بمهرجان كان السينمائي بفرنسا سنة 2001 وهي: السعفة الذهبية، وجائزتي أحسن دور نسائي وأحسن دور رجالي. كما حصد عددا من الجوائز الأخرى بين سنتي 2001 و2002.

وبما أن فضاء الوساطة يهتم بمسألة تدبير الصراع وطرق حله، وتدبيره بما يفيد النهوض بهندسة المجتمع، وتقوية الروابط الاجتماعية على أسس حقوقية في كل مستويات، ومناحي الحياة الاجتماعية. فإن الثقافة، والفنون كممارسة يمكن الترافع عنهما رغبة في النهوض بهذا الموروث الحضاري التليد تدوينا، وممارسة.

 واليوم نغتنم هذه الفرصة إثر إصدار أكاديمية المملكة المغربية لكتاب فاخر تحت عنوان "التبراع: الشعر النسائي الحساني" بالعربية مع ترجمة باللغة الفرنسية والذي تضمن توثيقا شمل بالإضافة إلى نصوص تعريفية، ومقاطع شعرية من فن التبراع مقطوعات صوتية بأصوات نسائية؛ ونعيد إحياء الملف سعيا لتسجيله كتراث إنساني حسّاني ، على لوائح اليونيسكو بتعاون مع مختلف الأطراف المهتمة، والمعنية.

وبعدها أعطى الكلمة من جديد للأستاذة عزيزة يحضيه التي ذكَّرت من جديد أن الليلة هي احتفاء بمكون ثقافي خاص، ومن خلاله بنساء مجتمع البيضان، وعلى وجه الخصوص بفن التبراع. ثم فسحت المجال للباحثة الدكتورة: (العزة بيروك) رئيسة فرع رابطة كاتبات المغرب لجهة كليميم واد نون، ورئيسة مركز أهل بيروك، من أجل تقديم عرض أكاديمي حول شعر التبراع من أجل جعل الجمهور المتتبع ملما بفحوى هذا النوع الفني والثقافي خاصة وأنها قد أعدت أطروحة دكتوراه في الموضوع.

بداية توجهت السيدة العزة بيروك بشكرها لكل المكونات التي سهرت على انعقاد هذه الأمسية الثقافية الهامة. وبينت أن ظهور شعر التبراع انتشر بالدرجة الأولى بفضل مكانة المرأة الحسانية بمجتمع البيضان الصحراوي، سواء في المغرب أو موريتانيا أو غيرهما، من مناطق الثقافة الحسانية خاصة في زمن البادية، ومجتمع الترحال؛ حيث كانت المرأة تصنع الخيمة بيدها من وبر الجمال، وتجلس رفقة الرجال تناقش أمور الحياة بمختلف تجلياتها، ومكوناتها، وتستقبل الضيوف في غياب زوجها. وفي ظل كل هذه الحيثيات ظهر شعر التبراع، مما خول لها أن تتحرر، وتبرز أكثر. كما بينت الأستاذة المتدخلة أنها تتحفظ على كلمة شعر بالنسبة للتبراع، مع العلم أن المرأة شاركت الرجل الحساني في عدة مواضيع، وأغراض شعرية: كالبكاء على الأطلال، والوصف، والمدح ...

فظهور التبراع غير معروف؛ إذ ليس له تاريخ بداية أو حتى نهاية، شأنه شأن الشعر الحساني عامة. لكن هناك إشارات إلى أنه كان مبدأ الشعر. فهو يتكون من (تافلويتين) اثنين أي شطرين. ولكنهما في الحقيقة ليسا مشطورين، لأن الشطر مع الشطر يعطينا بيتا شعريا متكاملا. بيد أننا نحتاج أربع (تيفلواتن) وهو الكاف، الذي يتكون من أربع (تيفلواتن) كحد أدنى، ومن ثماني (تيفلواتن)، وكحد أقصى يبلغ العشرة.

 لكن التبراع لوحده امتاز بكونه يتكون من (تيفلواتين) اثنين فقط، تحملان معاني عميقة ومكثفة. وفي عرف الشعر الحساني أن الطلعة كلما كانت موجزة، وتحمل معاني مكثفة، كلما اعتبر الشاعر مجيدا. فما بالك بتيفلواتين اثنين فقط. بل إنهما بمثابة قصيدة شعرية مكثفة، ومتكاملة.

 وبما أن موضوع التبراع هو الغزل، فإن المرأة تحفظت في أن تفصح عن نفسها، وتعلن أنها صاحبة هذه التبريعة أو تلك. ورغم أن المرأة متحررة في هذا المجتمع الحساني إلا أن المجتمع ينأى بها على أن تفصح عن حبها للرجل. لذلك فإن أول ظهور لهذا النوع الفني، والإبداعي كان بعيدا عن الكبار، ويتم في الخلاء أو بين الكثبان الرملية. فتغني كل بنت قصيدتها الصغيرة، وتلحنها. من هنا فالتبراع لا يُلقى إلا مُلَحَّنا. وبالتالي نتحفظ في وصفه بأنه شعر، على اعتبار أنه غناء أكثر منه شعر. بل إنه لم يكن يُلقى في البداية بصيغة شعرية، وإنما يلقى ملحنا لحنا شجيا دون أية آلة من الآلات الموسيقية. ثم تبنته المطربات فأدخلنه في إطار الغناء الحساني الذي يدعى (الهول ). فالتبراع كشكل من أشكال الغناء الذي تختص به المرأة الحسانية ليس شعرا. كما أن موضوعه الأساس هو تغزل المرأة بالرجل. غير أن هناك عدة مواضيع متعلقة بموضوع الغزل.

•        فهناك التبراع الوجداني: الذي تعبر فيه المرأة عن مشاعرها نحو رجل معين، وأكثر ما يوجع هذه المرأة هو عدم معرفة هذا الرجل بحبها له. فلا تجد ملاذا إلا التبراع لوصف هذه الأحاسيس. فتصف عذابها، وحرمانها. لذلك سمي هذا النوع: التبراع الوجداني لأنه يعبر عن وجدان هذه المرأة.

•        وهناك تبراع التويزة: وفيه تجتمع الفتيات، ويخترن اسما مذكرا معينا، يتنافسن في التبريعات حوله. وغالبا ما لا يكون هذا الاسم من الأسماء الشائعة في الثقافة الحسانية مثل (مراد، سامي...). حتى تجد هاته الفتيات حرية أكبر في التعبير. وتستحضر كل واحدة آلامها مع الشخص الذي تقول فيه التبراع.

مع العلم أن التبراع لا يقال بالضرورة من المرأة العاشقة، رغم أن العاشقة يكون قولها أكثر صدقا.

أما بالنسبة للتسمية، فهي تحيل على البراعة أو التبرُّع. وكلاهما صحيح. فمن البراعة أن تختزل المرأة معاناتها في شطرين فقط. تستوفيان كل المعاني. ويبقى التبرع هو الأقرب؛ إذ يحيل على أن المرأة تتبرع بتعبيرها للرجل حتى دون أن يتعرف على أنها تقصده، التزاما بالضوابط الاجتماعية المفروضة عليها، ووفاء للعادات، والتقاليد. فقد تشكو المرأة من عدم معرفة الحبيب لمشاعرها تجاهه، بل إنها بالرغم من اعترافها بهذا البوح -الذي لا يظل ملكها بما أنه لا ينسب إليها-... كما أن المَقصود به قد لا يَعرف أنه مُوجه إليه. وحتى وإن عرف، فقد لا يعرف صاحبة الرسالة ...

وفي ختام هذه المداخلة، تناولت الكلمة الأستاذة عزيزة. وقامت بتحديد الانتشار الجغرافي لمجتمع البيضان، والذي تبتدئ حدوده من وادي نون شمالا بالمناطق الصحراوية المغربية إلى نهر السينغال جنوبا، ومن المحيط الأطلسي غربا إلى تخوم شمال مالي. بعد ذلك ثمنت المداخلة القيمة، وشرعت في التعريف بقيدومة المسرح الحساني: السيدة الغالية الشرادي والمعروفة بلقب دستوره؛ حيث أشارت إلى أنها جد نشيطة داخل المجتمع المدني وخاصة في نسيجه الثقافي، والفني سواء تعلق الأمر بقضايا التنمية أو غيره، ولها مشاركات محلية، ووطنية، وجهوية، ودولية. كما أن دستوره حاصلة على عدد من الشواهد، والجوائز اعترافا بقيمة عملها الفني، والثقافي، والتنموي وحتى الحقوقي تتويجا لأنشطتها في هذه المجالات.

وقبل أن تشنف أسماع الجمهور المتابع بمقاطع من التبراع، أكدت بدورها على أن التبراع يأخذ شكلا شعريا ملحنا تتغزل فيه المرأة بالرجل دون الكشف عن هوية المتبرَّع فيه، ولا يحمل اسم صاحبته التي أبدعته. ولهذا النمط الفني شاعرية عميقة، وكثيفة سواء من حيث البناء أو المضمون. فهو اعتراف، وإفصاح، وبوح عن مكنونات وجدانية للمرأة الحسانية. بطريقة تقبلها الأعراف، والتقاليد المحافظة للمجتمع الحساني. وله بنية إيقاعية منظمة وفق موازين معروفة، ومعتمدة (وتسمى في حال غنائه الأزوان)، وقد يعادل قصيدة تحتوي عشرات الأبيات لأنه وليد لحظة إبداعية، وجدانية حبلى بالمشاعر، والأحاسيس، والحنين. لهذا يأتي تعبيرا عن المحبة الصادقة، والمودة الخالصة.

ثم انطلق تشدو ببعض النماذج لتقريب الجمهور من فهم ما يخالج صاحبة إبداع التبراع:

يا بالي نوصيك ... لا تبغي كون اللي يبغيك

يا بالي صبرا ... إن مع العسر يسرا

حبيبي هنينا ... مرة مرة فكد فينا

وفطي الكتمان ... وفقلبي دروك يبان

لا تظلموني ... إن الحب كالجنون

عمرك ما شفتيه ... فوق الباص يشير بيديه.

نظرة وعمامة ... شايفينهم راس العامة.

معقود نواصي ... جاي يعقدني من راسي.

وأردفت مقاطع أخرى كالتالي:

هذي الكمامة ... احرم من مال اليتامى.

يا البال تهنا ... لمر المولان ماه ان

حبك يا القديس ... حير نزار وقتل بلقيس.

عندو تبسيمة ... تحيي العظام الرميمة.

يا جاري صبرا ... إن مع العسر يسرا

وقت اللي يتكلم ... تمنيت عليه نسلم

 

ثم أشارت إلى أن اسم التبراع يعود -وفق تصورها -إلى ما تتبرع به المرأة على الرجل، وتهديه إياه من تعابير الشعر عن عشقها، ولوعتها، واشتياقها تجاه من تميل إليه. كما أوضحت 3أن هناك نماذج من شعر التبراع ذات بعد فكاهي.

بعد ذلك تناولت الأستاذة عزيزة يحضيه مداخلة الرّاوِيَّة والفنانة: دستوره شارحة نماذج، وأغراض شعر التبراع التي تفضلت بإلقائه، وكذا بعض أبياته. وبينت أن اللهجة الحسانية تعتمد كثيرا الحروف اللَّثَوِيّة: كالظاء والتاء. مما يضفي جمالية على اللغة القاءا وحضورا. بعد ذلك، قدمت الشاعرة والراوية: خديجة لعبيدي المعروفة باسم النّاهة. والتي هي بالإضافة إلى كونها رئيسة رابطة كاتبات المغرب -فرع السمارة، لها مشاركات ثقافية، وفنية بعدد من الملتقيات، والمهرجانات الجهوية، والوطنية، والعالمية ناهيك على تنشيطها لبرامج تلفزية على قناة العيون.

وتناولت الشاعرة: خديجة لعبيدي الكلمة؛ حيث بينت أهمية دور رابطة كاتبات المغرب، باعتبارها سباقة لتنظيم ندوة في معرض الكتاب سنة 2013، بحضور كل من الأستاذة الباحثة: العزة بيروك، ودستوره. وأكدت أن التبراع يمكن أن يعالج مختلف الأغراض وأنه حسب رأيها شعر، وإبداع. والمعروف عنه أنه يتكون من شطرين. الأول يتضمن خمس متحركين، والشطر الثاني يتكون من ثمان متحركين. وهذه ميزة التبراع في الشعر الحساني الذي يختلط فيه بيتان. (5 و8 متحركين). وهناك نوع من التبراع يتكون من ثمانية/ ثمانية، وكذا أربعة/ أربعة. مثل:

يا مولات التسبيح*****أعطيني نسبح ونريح.

 يا مولات النيلة *****أعطيني منك شيلة.

يا مولات الردات *****مانك كيف المطربات.

وهناك أيضا نماذج في مدح الرسول (صلعم):

هذيك الشفاعة نبغي نحضر فيها ساعة.

 عليه الصلاة، مرات، ومرات، ومرات.

يالرب احمينا، وجميع المسلمينا

ارفع كورونا، ويتموا الحباب يجونا

مشا فتى آمنت بالله ربا.

وفي إطار هذا الاستعراض، طرحت الأستاذة عزيزة يحضيه سؤالا على السيدة الناهة كالتالي: هل البدع يدخل في التبراع؟

فردّت عليها الناهة أن كل نساء البيضان البداعات يقلن التبراع. وأن هناك منهن من تقتبس من آية قرآنية، أو من مثل شعبي في إنتاج التبراع. أما عن علاقة التبراع بالموسيقى فالأصل أن التبراع كان يغنى.

وتدخلت الأستاذة العزة، مبينة أن التبراع هو كله بدع. وأن الجديد الآن هو أن بعض المتبرعات أصبحن يصرحن بالتبراع، ويكشفن عن أسمائهن الحقيقية. مما جعل نصوص التبراع معروفة المصدر. ورغم القول إن التبراع يمكن أن يستخدم في أي غرض إلا أن الأغلبية ترى أن التبراع له خصوصية أساسية هي التغزل بالرجل. رغم أن هناك بعض الرجال أصبحوا يَنْظُمون التبراع؛ الأمر الذي يعتبر خرقا للقاعدة الأصلية التي جاء هذا النوع الثقافي من أجلها.

وعطفا على ما قالته الأستاذة العزة بيروك أوضح الأستاذ عبد الفتاح الزين أن هذا النوع من التحولات يمكن أن نلاحظه في عدد من الفنون والإبداعات التي كانت حكرا على الرجال أو على النساء ثم أصبحت مشاعة بين الجنسين. فبعض نصوص الملحون التي يكون موضوعها العشق، والغرام كان غناؤها حكرا على الرجال. على اعتبار أن النساء لا يمكنهن أداء هذه النصوص التي يمكن أن تشكل اعترافا بسلوكات يرفضها المجتمع، بل وتعاقب عليها التقاليد، والأعراف ... لأن المرأة لا يمكن أن تتغزل في المرأة، كما أن الرجل لا يمكنه التغزل بالرجل ... غير أننا اليوم أصبحنا نرى أن هناك نساء يؤدين نصوصا غنائية للملحون كانت محرمة عليهن بحكم الأعراف والتقاليد ... هذا النوع من التحول نجده في العديد من المجتمعات التي تحدث فيها تغيرات سواء في القيم، أو الأعراف، أو في العلاقات بين الجنسين، وخاصة مكانة المرأة ...

بعد ذلك طلبت مسيرة الجلسة من الحاضرات أن يدلين بتصوراتهن الأخيرة حول موضوع النقاش احتراما لوقت الجلسة الرمضانية، والتزامات الجمهور.

وهكذا تناولت الكلمة الدكتورة: العزة بيروك التي أضافت أن التبراع توجد فيه جميع المحسنات البلاغية كالتضمين، والاقتباس، والجناس، والاستعارة، والتشبيه ... مثله مثل الشعر الحساني. وبينت أن التبراع كلما كان غير صريح كان أجمل. فهناك تبريعات يصعب حتى معرفة ما تريد المتبرعة قوله دون تحليل للتبريعة، وانكباب على فك رموزها، مثل:

ما يقدر ينعاف ... الخضار في عينان الجفاف.

فهذه التبريعة لا تتضمن اسم الحبيب أو حتى إشارة ظاهرة له. وقد يبدو للوهلة الأولى وكأن المتبرعة تتحدث عن الجفاف والطبيعة. لكن إذا حللنا لغة التبريعة وتفحصنا المعنى الثاوي وراء المفردات ودلالاتها، فهمنا أنها تقصد الحبيب، وتصرح بأن لونه أخضر، وهو ما يعني في الثقافة الحسانية اللون الأسمر، أي أنها تتحدث عن حبيب لونه أسمر.

وهناك أيضا نص آخر:

بعث ذا العام ... يوسف عليه السلام

وهذا يعني أن المتبرعة رأت شابا لشدة جماله شبهته بسيدنا يوسف. وبالتالي كلما كان التبراع غير مباشر، وغير صريح كان أجمل، وأبلغ. فكلمة حبيب لا توجد في الحسانية، وإنما نجد الخبيب، وبالتالي هناك الكثير من التورية في الشعر الحساني. وكان هذا ما ختمت به مداخلتها القيمة.

بعدها تناولت الكلمة الراوية دستوره. والتي بينت ضرورة الاهتمام بهذا النوع الفني والثقافي الذي كان مزدهرا في الثمانينيات والتسعينيات. ثم عاد اليوم للظهور والازدهار. وقد رفضت أن يكون الرجل متبرعا لأن هذا اللون خاص بالمرأة لا غير، وعلينا احترامه والذود عنه كذلك. كما أكدت أن التبريعة تحمل في ثناياها معاني غزيرة رغم صغر حجمها. وعبرت عن رغبتها في أن يتم الانتقال سريعا بالتبراع إلى المستوى الأكاديمي، والمكتوب حتى يحظى بالمكانة التي يستحقها، ويحفظ من الضياع، ويتم النهوض به.

وفي كلمة الشاعرة الناهة، بينت أن التبراع قد تجاوز صورته القديمة التي كان لا يعرف فيها من قالته أو أبدعته، ولا فيمن قيل ... وأشارت إلى أن مسالة الاختلاف حول نوع الأغراض التي يمكن أن يعالجها التبراع، أو إمكانية إبداع الرجل في هذا المجال كلها مواضيع تعكس قيمته وأهميته، وبالتالي أهمية الاختلاف حوله.

بعد ذلك تناولت الأستاذة عزيزة يحضيه الكلمة من جديد، وبينت أن شعر التبراع يخدم ثقافة الحب، والاعتراف، بالتالي ضرورة تدريس هذا النوع الإبداعي، والثقافي، كمرجعية لتأسيس كل هاته القيم التي تسمح بالدرجة الأولى للمرأة بالبوح، والتعبير، والتنفيس عن مكنوناتها الوجدانية. بل إن المرأة الحسانية بالنسبة للمتدخلة قد مارست السياسة من خلال هذا النوع الثقافي الهام.

وفي الختام قدمت الأستاذة العزة توصية بإجراء مسابقات في التبراع. مثل ما سارت عليه بعض البرامج التلفزية. وهو الأمر الذي سيحقق دفعة هامة تشجع على الابداع في هذا المجال، والتعريف به داخل، وخارج المغرب، كما أكدت على أهمية بقاء هذا النوع الشعري خاصا بالتغزل بالرجل.

بل إن الشاعرة الناهة بينت أن برنامج إجراء مسابقات في هذا التخصص، هو موضوع اهتمام منذ مدة، وسيتم تفعيله في القريب العاجل. وختمت مداخلتها بنموذج لترويغ إحدى التبريعات الجميلة:

اصبر يا بالي ... الوكار اللي تعرف خالي

والتي قام أحد الشعراء بترويغها على الشكل التالي:

من لوكار اللي نعرف ... كنت وكر دليل

 ولكن دمنت مرياه ... ولا فت تمكنت من نسيانو

 ذاكم حالي ... واشبشت بريك وضمنت على راس لساني حالي

اصبر يا بالي ... حق شفت لوكار اللي تعرف خالي

وفي ختام هذه الليلة التي كانت مهداة للتبراع، كاحتفاء بالمرأة وبإبداعها خاصة في الثقافة الحسانية، تناول الكلمة الاستاذ عبد الفتاح الزين موضحا أن هذا اللقاء سينجز تقرير بخصوصه، لينشر. كما بين أن فضاء الوساطة مهتم بتفعيل الأنشطة المرتبطة بشعر التبراع سواء من أجل الترافع حوله كتراث لامادي، يجب تسجيله لدى اليونيسكو كما أعلن في البداية، كما يمكن استغلاله في تدبير التوترات حول مكانة المرأة باعتباره ممارسة جيدة يجب أن تستفيد منها مختلف الروافد الأخرى، لإغناء الهوية المغربية، وتقوية مكانة المرأة. بل والتعامل من خلاله في تجسير العلاقات مع الثقافات المحيطة بنا. أو على صعيد التجارب الكونية الأخرى.

 وأشار إلى أن فضاء الوساطة عقد اتفاقية شراكة مع المندوبية الإقليمية للتعليم، وسيعمل على استغلالها من أجل التعريف بهذا الفن وتعميمه كنشاط ثقافي يساعد النشء في التعرف على روافد الهوية المغربية المتنوعة، وكذا التفكير في تنظيم لقاءات فيما يتعلق بالديبلوماسية الثقافية، وهو ما سيفتح الباب للاشتغال، وتطوير تراث التبراع. فالمغرب الذي أهدى للعالم اليوم العالمي للشعر، يمكنه أن يشكل جسرا للنهوض بهكذا أنواع من التراث اللامادي، وصونها من الاندثار بفعل التعرية التي تنشطها العولمة. 

وتم رفع هذه الجلسة التي كانت آخر حلقة في الصالون الأكاديمي الذي يدخل ضمن أنشطة الوساطة الثقافية التي يهتم بها الفضاء.

تعليق عبر الفيس بوك