الطبقية والعُنصرية القبلية

بدر بن خميس الظفري

تابعت منذ فترة مقطعا مرئيا عبر "يوتيوب" يعرِضُ تجربة أُجريت على مجموعة من الأشخاص من جنسيات متنوعة وأعراق متعددة، تتمثلُ في إجراء اختبار تحليلِ الحمض النووي لكل فردٍ منهم لمعرفة مكوناتهم الجينية وتحديد الأصول التي ينحدرون منها.

وقد أجريت لهم قبل ظهور النتائج، مقابلاتٌ سئلوا فيها عن توقعاتهم حول نتائج التحليل، فكانت توقعات البعض أنَّ أجدادهم وأسلافهم لا يبتعدون كثيرًا عن المنطقة الجغرافية التي ينتمون إليها حاليًا؛ بل إن أحدهم تحدى القائمين على الاختبار أنه إنجليزي خالص، والآخر قال إنه عراقي بلا خليط. ثم وجه لهم سؤال عن عرقٍ أو جنسيةٍ يكرهونها ولا يتوقعون أبدا أن يكون لهم أي صلة بها، فذكر كلُّ واحد منهم عرقا معينا يكرهه، ولا يظن أبدا أن له أي علاقة به من قريب ولا من بعيد، وقد أكد غير واحد منهم اعتقاده الجازم بأن الجنسية التي ينتمي إليها والعرق الذي ينحدر منه هما الأفضل بين جميع شعوب الأرض.

تُسمى التقنية التي تستعمل لتحليل الحمض النووي بتقنية التنميط الجيني أو (genotyping)؛ حيث يرسل الفرد عينة من جسده- عادة ما تكون اللُعاب- إلى شركات متخصصة في هذا المجال في حاويات مخصصة لهذا الاختبار، ثم تقوم خوارزميات ذكية بمعالجة النتائج لتحديد العرق أو الأعراق التي انتمى إليها الفرد من بداية أصل البشرية الأول وصولا إليه، وكذلك المناطق الجغرافية والبلدان التي ترجع إليها أصوله؛ حيث يقسم الاختبار البشر إلى مجموعات عرقية تقع في مناطق جغرافية معينة مثل: جنوب أوروبا أو شمال إفريقيا أو المشرق أو العرب أو شمال الصين. كما يمكن لهذه التقنية أن تزود الفرد بتقارير صحية تحوي معلومات عن صفاته الجسدية المحتملة مثل نوعية شعره، وأن تقدمَ توقعات حول الخطر الجيني للشخص من بعض الأمراض؛ مثل: الزهايمر والشلل الرعاشي، وبعض الطفرات المرتبطة بزيادة خطر الإصابة بسرطان الثدي. وتستعمل هذه التقنية أيضًا لتحديد الأب البيولوجي للطفل في حال ادعاء الرجل نسبة ولد معين له أو نفي صلته به، كما يستعان بها في التحقيقات الجنائية لمعرفة هويات مرتكبي الجرائم عن طريق بقايا من أجسادهم قد تكون سقطت في موقع الجريمة كخصلات شعر أو قطرات دم أو غيرها.

بعد خروج نتائج التحليل، تفاجأ الكثير من الخاضعين للاختبار أن أصولهم ليسوا كما كانوا يعتقدون من أنها نقية من عرق واحد؛ بل إنها خليط من أعراق شتى في أزمنة مختلفة، وأن رحلة أنسابهم المحفوظة في خريطتهم الجينية في خلايا أجسادهم مرت عبر مناطق متعددة في عصور مختلفة؛ بل إن بعضا ممن قالوا إنهم يكرهون عرقًا بعينه اتضح لهم أن شيئا من أصولهم ينتمي إلى ذلك العرق. وشاهدتُ عدة مقاطع يوتيوبية أخرى لأفراد من الجزيرة العربية ودول الخليج يعرضون تجربتهم في إجراء هذا الفحص، ويبدون دهشتهم من أنّهم ينتمون إلى أعراق أخرى، وأن في خرائطهم الجينية من أجدادهم من كان من أصل إفريقي أو تركي أو فارسي أو آسيوي، وهم من كانوا يعتقدون أنهم من عرق عربي أصيل لا تشوبه شائبة.

إنّ الاكتشافات العلمية الحديثة التي تعتمد بشكل رئيسي على التجربة الحية، والتحليل الموضوعي، والدراسات المخبرية، أسقطت خرافات عديدة، وكسرت أصنامًا فكرية كثيرة، ومزقت معتقدات كانت تعدّ من المسلمات والمقدسات، ومن ضمنها خرافة النسب العالي والنسب الوضيع، وتقسيم الناس إلى طبقات، بناءً على الأصل والعرق والقبيلة، فهذا من طبقة أولى وذلك من طبقة ثانية، وهذا من قبيلة شريفة، وذاك من قبيلة وضيعة. فاختبار التنميط الجيني المذكور، دليلٌ واضح على أن الأنساب التي يفتخر بها البعض، مدّعين أنهم ينتسبون لعرق نقي قد تكون غير صحيحة، وتعتمد على روايات وادعاءات غير موثوقة، وقد تكون مُزوَّرة، وأن أصل أي فرد قد يكون مختلفًا تمامًا عما يؤمن به أو يُعرفُ عنه، وأن نسبه الذي يفاخر به لا علاقة له به، وأجداده الذين يفتخر بهم ليسوا أجداده أصلا، وأن الوضع القبلي والطبقي الذي هو فيه حاليا أفرزته ظروف سياسية، وأوضاع اقتصادية في مرحلة معينة، انتشرت فيها الحروب والنزاعات والفوضى، وما تبعها من جرائم السبي والخطف لفتيان أحرار وفتيات حرائر، شُروا آنذاك بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودةٍ في أسواق النخاسة والرقيق، فاختلطت الأنساب والأعراق.

خطورة هذا الأمر لا تكمن في التفاخر بالأنساب وحسب؛ بل تتعدى إلى تصنيف البشر إلى طبقات، اخترع لأفرادها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، تختلف من مجتمع إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، لكنها جميعا تصب في خانةِ احتقار صاحب الطبقة الدنيا، وتمجيد صاحب الطبقة العليا، فيوسم الأول بألقاب قبيحة تجعله يشعر بالدونية في مجتمعه، وتقيده عن الانطلاق في ميدان الإبداع والإنجاز، وتُضْفى على الأخير أسماءٌ تبجلهُ وتميزهُ، وتجعلهُ يشعر بتفوقهِ العرقيِّ منذ نعومة أظافره، حيث يتلو عليه أبواه الدروس النظرية والعملية في هذا الشأن، فيخبر أن فلانا من طبقة كذا، وفلانا من طبقة كذا، ثم تخطّ له الأساليب التي ينبغي له أن يتعامل بها مع كل طبقة، فينشأ منتفخًا مزهوا بنفسه، يرى لنفسه الأفضلية على غيره، ولسان حاله قول المتنبي:

ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ من شرفي // أنا الثريا وذانِ الشيبُ والهرمُ

أي أن نَسَبَهُ يُستحالُ أن يمسه عيب، كما إن النجوم يُستحالُ أن تشيب أو تهرم.

ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ ينشأ مجتمعٌ طبقي، تنتشر فيه العنصريّة القبلية، وتبتعد فيه الكفاءات عن المناصب الكبرى، وقد يعيّن فيها من كفاؤتهم الوحيدة أنهم ينتمون إلى قبيلة محددة. وفي الوقت نفسه، يحرم ممن يحملون الكفاءات والقدرات الإدارية والعلمية من تقلد هذه المناصب، لا لشيء، إلا لأنهم ينتمون إلى طبقة ينظر إليها بدونية، فتحرم الدول من المؤهلين لقيادتها، وتصبح القرارات المهمة بيد من ليس أهلا لاتخاذها، وهكذا دواليك تنتشر المحسوبية والفساد، وتدخل المجتمعات في دائرة مغلقة لا مخرج منها.

ومن ضمن مظاهر الظلم في هذا الشأن هو منع التزاوج بين القبائل والطبقات، وهي قضية غلّفت- للأسف الشديد- بغلاف شرعي، فأفتى بعض المشايخ بأن تكافؤ النسب يُعدُّ من أنواع التكافؤ بين الزوجين، ووضعوا في يد ولي الأمر الحق في رد الخاطب إن رأى أنه غير مكافئ للمرأة نَسَبِيًا، حتى وإن كانت راغبة به، وهذه- لعمري- فتوى تفوح منها رائحة الجاهلية، وتنافي تمامًا تعاليم القرآن الكريم وسنة صاحب الخلق العظيم، وتتصادم مع روح الإسلام الداعية إلى العدالة، فالرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام يقول: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ". وبالرغم من تنازع المحدثين في صحة سند هذا الحديث إلا أنّ معناه يؤيده قول الله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين زوّجَ زيد بن حارثة، وهو مولى له، من زينب بنت جحش وهي قرشية وأمها هاشمية.

ولقد ساءني كثيرا خبرٌ بثته قناة العربية الفضائية قبل خمس سنوات عن حكم قضائي صدر في السعودية بتطليق زوج من زوجة، وهي حبلى في الشهر الثامن بعد أن رفع أهل الفتاة قضية في المحكمة لتفريق الزوجين؛ لأنهم اكتشفوا بعد حين من زواجها أن الرجل ليس كفؤا لهم في النسب!! وقد خرجت الفتاة بحرقة شديدة تناشد العالم في مقطع مرئي متداول أن أوقفوا هذا العبث، معلنة أنها تحب زوجها ومرتاحة معه، وترغب في مواصلة الحياة إلى جنبه برفقة طفلهما المنتظر. وإنني لأقلب كفيّ متسائلا: هل كان القاضي في كامل وعيه عندما أصدر ذلك الحكم؟ وكم من القصص التي عايشناها أو سمعنا عنها عن فتيات يافعات تقدم لخطبتهن الكثير، لكنَّ أولياء أمورهن كانوا يردون الخطاب بسبب عدم تكافؤ النسب، فَحُرِمنَ الزواج وتكوين الأسرة والشعور بفطرة الأمومة بسبب تقاليد جاهلية، وهذا هو الفساد العريض الذي حذرنا الرسول منه.

لقد عُرّفت العصبيةُ القبليةُ بتعريفات متعددة، لكنني أرى أنَّ أشملِها ما توصل إليه الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي في كتابه القيّم "العصبية القبلية من المنظور الإسلامي"؛ حيث عرّفها بأنها "تضامنُ قومٍ تجمعُهُم آصرةُ النسبِ أو الحِلفِ، مع نصرةِ بعضهم بعضًا ضد من يناوئهم، ظالمين كانوا أم مظلومين". ثم أورد الجريسي بعد هذا التعريف حديثا شريفا رواه أبو داؤود والطبراني أن وائلة بن الأسقع سأل رسول الله عن العصبية فقال: "أن تعين قومك على الظلم"، ومن هنا تتضح العلاقة المضطردة بين العصبية والظلم. وقد أجرى الدكتور الجريسي استبيانا على 50 فردًا ممن يُعدُّون من الطبقة الأولى في المجتمع السعودي، طرح عليهم أسئلة كثيرة تتعلق برأيهم في النسب والافتخار بالقبيلة والتزاوج بين الطبقات الأخرى وغيرها من الأسئلة الحساسة، وخرج بنتائج ممتازة لا يتسع المجال لسردها في هذا المقال، ويمكن للقاريء الكريم الرجوع إليها في الكتاب.

نحن لا نعيب على من يحفظ حسبه ونسبه؛ بل ذلك من المحمُودات التي يتعرف من خلالها المرء على أرحامه، فيحافظ على صلة الرحم التي أمر الله بها أن توصل، ولكن العيب كل العيب أن يجعل هذا النسب هو المعيار الذي يفاضل به البشر بعضهم عن بعض، وأن يُقسِّم الناس إلى طبقات، فيتكبر ويتعالى على من يظن أنهم أقل منه منزلة، فالنسب ليس شيئا يكتسبه الإنسان بجهده، بل هذا قضاء الله أن جعله في هذه العائلة أو القبيلة، فكيف يفخر الفرد بما ليس له يد فيه، أو يعيب غيره بما ليس له ذنب في حدوثه.

وقد تفطَّنّ الشيخ محمد الغزالي في كتابه الفخم "الإسلام والاستبداد السياسي" إلى العلل والأسباب النفسية التي تجعل الفرد يثير النعرات العصبية فحللها قائلا: "إنّ نفخ النار في النعرة العنصرية لا يلجأ إليه إلا واحد من ثلاثة: شخص تافه يعرف من نفسه فقدان الكفاية، فهو ينَوِّهُ بنسبته ليستعيض بها عما فقد من رجولته ومروءته، أو رجل فاجر أعياه الارتفاع بالناس إلى المثل الفاضلة فرتع معهم في شهواتهم وجاراهم في أهوائهم ليجاروه فيما يهوى، أو رجل مغرور يحسب، عن ضلال في الفهم، أن جنسا أفضل من جنس، ولونا أكرم من لون، فهو يملأ فمه فخرا بقومه. والإسلام يكذب أولئك أجمعين".

وفي هذا السياق نود التنويه بدور القوانين العُمانية النافذة في حفظ كرامة الإنسان على أرض عُمان الطيبة، والعمل على إذابة الفوارق العصبية بين مكونات أفراده، وتقليم أظافر العصبيات بجميع أنواعها، كما أوضحنا في مقال سابق حول هذا الموضوع، وعلى رأسها النظام الأساسي للدولة الذي نصت مادته الخامسة عشرة في جزء منها على أنّ "العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع، تكفلها الدولة"، وأنّ "التعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، وتعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي إلى الفرقة، أو الفتنة، أو المساس بالوحدة الوطنية".

تعليق عبر الفيس بوك