لم يعطوه ملكية في أرضه

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

يبلغ من العمر الآن زهاء المئة عام، وبدت حكايات السنين الغابرة ترتسم على محياه منذ سنوات، ولاحت المُعاناة وقصص الكفاح والعوز والفقر عليه ليس بقريب، وتجاعيد وجهه وجسده النحيل الذي أخذ في الضعف والتعب، يعبرون عن ذلك من أول وهلة تراه فيها.

هو رجل طيب وكريم وشهم، ويدلف إلى قلبك عند أول لقاء به، ومنذ أن وجد على الأرض وحتى يومنا هذا، يعيش في بيت بسيط جدًا، فهكذا هم الفقراء وهكذا هي بيوت الفقراء والضعفاء والمساكين عادة تتسم بهكذا وصف، ولا تعد تخرج عنه البتة. إنه وأهل بيته لا يعرفون من رفاهية العيش شيئاً سوى ما كان يعيشه هو منذ 50 سنة، مسكن فقير وبسيط به نخيلات وعدد من الماعز، ويومه يدور ويكون حول ذلك.

جسده الذي أكل الزمان عليه وشرب والذي عاصر قرون الأئمة والسلاطين، كعصر كالسلطان سعيد بن تيمور- رحمه الله-، وابنه السلطان قابوس- طيب الله ثراه- تتلقفه صبية- أي أرضية- غرفته التي إن جاءها المطر انسكب منها وما عليها من مزن السماء على أشيائه وأمتعته البسيطة. ففراشه ليس سريراً فارهاً من فئة 10 نجوم أو 5؛ بل هو عبارة عن "دوشق" قديم بسيط رث يغطي الصبية، وعليه لحاف باهت وقديم، ووسادته لا تختلف عنهما.

ومع هذه الأحوال إلا أنه يصبح ويمسي شاكرًا حامدًا قانعًا، ومعظم وقته قابعاً في بيته، فتارة يكون بين مزرعة البيت البسيطة التي تحتوي على عدد محدود من أشجار النخيل ينظر إليها بعين المتأمل والمستذكر لصبا عمره وتعبه عليها وعلى زراعتها وحرثها وسقيها، وتارة يخطو نحو حيواناته القليلة، يقدم لها الطعام والغذاء المتعارف عليه، وهو يربيهن ليس لمقصد البيع كما يفعل الكثير من مربي الماشية.

منذ عرفته وجدته "بيتوتي"، فلا يخرج من بيته إلا للضرورة القصوى، فلم تعد قدماه وانحناءة ظهره يسعفانه ليمشي مسافات ولو بسيطة، وبحسب شهادته يقول إنه تجاوز الـ90 سنة، وقد رزق منذ 60 سنة وهو في عمر الـ30 سنة، بأول مولود له من إحدى زوجاته، إلا أن ذاك المولود توفاه الله بعد حين.

فبحسبة بسيطة نجد أن ثلاثين سنة هي عمره الذي رزق فيه بأول مولود، نزيد عليها 60 منذ وفاة ابنه، فها هي فعلاً تسعون كاملة. ويقول متحدثا عن نفسه إن والده توفي عن عمر ناهز 80 عاماً منذ أكثر من 50 سنة، وهو يعيش في نفس الأرض التي عاش فيها أجداده وآباؤه التي كانوا عليها منذ ما يقرب من 120 سنة، إلا أن الأرض ما زالت وقفًا لأحدهم، ولأنه فقير ما زالت أعينهم عليها، وبودهم أخذها منه اليوم، وانتزاعها لضمها إلى تلك الأراضي التي كان فقراء معينون يسكنون عليها منذ أمد، وبمجرد موتهم أخذوها لهم ولأبنائهم، فياسبحان الله من هكذا ناس!

حبيبنا الذي أنا بصدد التحدث عنه، بين فترة وأخرى يلسعه أولئك المتنفذون بسياط الذل والهوان، يتمثل ذلك في رغبتهم بأخذ الأرض ومساومتهم أحيانًا على أخذ جزء منها، ومرة يريدونها بالكلية، وهو كما يؤكد أنها أرض أجداده وآبائه آلت له منهم، حتى وإن كانوا هم يدعون أنها وقف لهم.

يقول هو إنَّ عدد السنين والمدة التي قضوها على تلك الأرض يتجاوز عشرات السنين، وحتى كتابة هذه السطور، لم يُعطَ فيها ملكية بحجة أنها وقف لهم، أعتقد أنهم ينتظرون موته حتى يستولوا عليها.

هو رجل أُمّي، ولم يلتحق قط بأي مدرسة أو جامعة، ولم يكن تعليمه جامعيًا ولا غير ذلك، إلا أنه منذ البدء كان إنسانًا عصاميًا مُفعمًا بالحيوية والنشاط، متسمًا بالشجاعة والقوة والمروءة والرجولة. ولعل ما تقدم ذكره اكتسبه بالوراثة من والده تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، ومن بقية أهله النبلاء والكرماء الذين كانوا معروفين بالشجاعة والصلابة والإقدام مع الحكمة والرزانة.

وكانوا يخدمون أولئك المتنفذين بإخلاص وتفانٍ، إلا أن ذلك لم يشفع له بأن يُعطى ملكية في بيته الحالي الذي ما زال يسكنه وعياله وأهله، وهو في حياته عاملا بذاك القول الذي يقول "كن ابن من شئت واكتسب أدبًا يغنيك محموده عن النسب".

عن نفسي عهدته يأكل من عمل يده، والحديث يقول "من بات كالا من عمل يده بات مغفورًا له".

ورغم أنه أصبح طاعنًا في السن، إلا أنه لا زال مدرسة في التواضع والأخلاق والفضيلة والكرم، ويتطلع اليوم في ظل العهد السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- إلى أن يُعطى ملكية في أرضه القديمة، فهل سيستجيب أصحاب الوقف له؟!

حقيقة أقول إن شخصًا عاش في أرض منذ 100 سنة وأحفاد أحفاده عندهم أولاد، والله عيب أقول له أخرج من الأرض أو أساومه عليها؛ بل إكرامًا له ولسنه ولخدمته لنا، سأقول خذ الأرض لك.

ووالله أتذكر أن بئرَ بيته بنفسي شاركت في حفرها في ثمانينيات القرن الماضي، وعندما أرادت الحكومة ترقيم الآبار، تفاجأ هو وأولاده بأنَّ البئر مسجلة باسمهم، فيا سبحان الله! إنَّ المولى عز وجل يقول: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".. فيا عالم ارحموا الفقراء وعاملوهم كأهلكم، صفّوا قلوبكم نحوهم واجعلوها نقية تجاههم بدون حسد ولا خبث ولا دهاء، فو الله لن تأخذ من الأرض إلا شبرًا فقط، هو قبرك عندما تموت.

اعطوا المسكين ملكية في بيته، وتمسكوا بالآخرة أفضل لكم من تمسككم بالدنيا فإنها فانية وزائلة، والله يحفظ الجميع.

تعليق عبر الفيس بوك