متلازمة الجنّ العاشق!

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

A7lam.alyamam@gmail.com

 

"الجهل ليس عارًا؛ بل إنّه سعادة لأغلب الناس بيننا، والحق أنّه السعادة الوحيدة الممكنة في هذا العالم".

                     "باتريك زوسكيند"

 

*****

سألته:

  • ما بها؟

فأرسل صورة لوجه حزين:

  • ضرّ
  • ماذا تقصد؟
  • لَبْس!

فاتّصلتُ؛ لأطمئن على مشاعر الجنّي الذي يبدو أنّ حظّه السيء أرسله للإقامة في جسدِ زوجته النَكَد! فلم أرها طوال سنوات زواجهما تبتسم في وجوهنا، نحن -المغضوب عليهم- أقاربه!

ورغم محاولته الصمود أمام تعليقاتي، إلّا أنّه وجد نفسه غير قادر على الاستمرار في تصديقها، وكأنّ أحدا طرَق على ما تبقى من عقله وعلمه وتفكيره، وبأنّ شهادته العلمية، ووظيفته لم تأتِ عبثا، بل من مؤهلات يمتلكها!

وعندما قال لي؛ ولكنّ السحر موجود، قلتُ له:

  • والقرآن موجود، وسورة البقرة؟! والرُقية؟
  • صحيح! صحيح يا ليلى.

فأخبر زوجته عن كلامي؛ لتغرقني برسائلها المتتابعة؛ وكأنّها تفرغ معجم قبيلة كاملة من الشياطين الذين يسكنون رأسها، وختمت رسائلها بـ:

  • أتمنى أن يلبسكِ جنّي، وتعيشين معاناتي!

فاكتفيت بإرسال رقم إحدى قريباتي اللواتي مررن بتجربة الّلبس، وليس أيّ لبس، فلا بدّ أن يكون عاشقًا! وقلتُ لها:

  • تواصلي معها، ربما يصل شيطانكِ وشيطانها إلى اتّفاق ويكون الشفاء جماعي!

وأنا على يقين تام بأنّ شقيقي لم ينم ليلتها، وستقيم -على رأسّه- طقوس الرّقص مع الجنّ العاشق؛ فأرسل لي مستغيثا:

  • أليس هذا سحر؟!
  • عبط!
  • على كُل سيأتي الرّاقي غدا، دعواتكم لها!
  • للجنّي طبعا!
  • أنتِ لا تصدّقين أبدا.

وبعد الدخول معه في نقاش وجدل؛ طلب منّي الحضور عند مجيء الرّاقي، وطبعا ليست المرّة الأولى التي تتم فيها استضافتي في مهرجانات مشابهة؛ لأقف على دلائل اللبس، وأفرق بين السحر الحقيقي، والمرض النفسي، والتمثيل!

وأصل إلى قناعة تامّة بأنّ جميع ما يحدث أمامي تمثيل في تمثيل في تمثيل!

لكن لا بأس من جلسة ترفيه، واضعة في أذني سماعة على أغنية "كاظم الساهر":

"أحبّك جدا

وأرفض من نار حبّك أن أستقيلا

وهل يستطيع المتيم بالعشق أن يستقيلا؟

وما همّني إن خرجت من الحبّ حيّاً

وما همّني.. إن خرجتُ قتيلا!"[1]

فاحتّج الجنّي الذي يعششُ في رأسها، والذي يتحدث على لسانها، وبنفس صوتها:

  • لن أخرج.. لن أخرج!

ثم جحظت عيناها، وحدّقت بي كمن يضمر شرّا، وطبعا هذه الحالات معروفة مسبقا في ذهني، فأكثر شخص لا يروق للمسحورة، أكثر شخص ترشقه بنظرات الكراهية، الصادرة من:

  • الجنّي طبعا!
  • عذرا، الجنّي العاشق! العاشق!

وقد يكون الجنّي العاشق يهوديا، أو مسيحيا، أو مسلما! أو بوذيا، أو هندوسيا؛ فالديانة لا تهمّ كثيرًا في عَقْدِ العشق بين الجنّ والإنس؛ لأنّ العشقَ يعلوا على الاختلاف العقائدي، والفكري، والحزبي!

فقال الرّاقي بعد أن يبست حنجرته:

  • مارد.. ملحد..
  • ملحد؟!
  • والحل؟

فجلس وتنهد، بينما تسمرّت عيناها جهتي، وعند انشغال أخي بالحديث مع الرّاقي ابتسمتُ لها؛ لأغيظها، فصرخت صرخة أفزعت الرّاقي وأخي، وهي تردد:

  • سأقتلكِ.. سأقتلكِ يا ليلى!

وهمّت للهجوم لولا إسراع أخي بتوثيقها، وطلب منّي المغادرة.

في المساء، اتّصلتُ به؛ لأطمئن عليه، فقال بأنّ الرّاقي أعطاها ماءًا وزيت زيتون، وسدر، وطلب تشغيل سورة البقرة طوال اليوم، إلى أن تشفى، فقلت له:

  • لكنّه ملحد!
  • ستحرقه، سورة البقرة!
  • أو البقرة نفسها!

وناقشته حول سبب تسميتها بسورة البقرة، ودخل معي في جدال، مشابه لجدال اليهود؛ لأنّ البقر تشابه عليهم! ثمة شيء مشترك لا شك!

ثمة رابط مشترك، وأكدّت له بأنّ مواسم الشياطين معروفة حسب العائلة، فنساء العائلة لدينا يُصبن بالشياطين قبيل العيد، ويتحررن من الشياطين في الإجازات الرّسمية، فلا بدّ أن يعود الغائب إلى أهله؟ والشيطان إلى زوجته وأولاده! وما المانع أن يبتهج الجميع؟!

  • ما المانع؟!

وطمأنتُ أخي إلى أنّ العيد على الأبواب، وستقول لك بأنّها شُفيت؛ ليأتي العيد وهي في كامل أناقتها، وتخلع الشيطان، وتلبسُ ذهبًا جديدًا بعد أن تنفق عليها مبلغا محترما من المال!

تنهد أخي، وتمنّى لو يسافر بعيدًا؛ ليهرب من هذا كلّه.

ثم أغلق المكالمة بعد سماع عراك أولاده، فأرسلتُ له:

  • احضر أولادك غدا؛ ليرّفهوا عن أنفسهم.
  • بإذن الله تعالى.

فأخذتهم في جولة، وتأملتُ وجوه أبنائه الشاحبة، وفي داخلي أشعر بالرثاء على حالهم، كيف أنّ بلاءهم في هذه الدنيا أمّ خاوية، تهرب من مواجهة الواقع بادّعاء السحر، والتلبس، والحسد، وكل ما يجلب الوهن والمرض والضعف، وتعطل حواسها عن تدبير شؤون منزلها، والاهتمام بأطفالها، وبتعليمهم، وتحصر نفسها في دائرة ضيقة معتمة!

أعدتهم إلى منزلهم، وطلب منّي أخي الدخول؛ لكنّي اعتذرتُ لانشغالي؛ فرفعت رأسي للأعلى، ورأيت زوجة أخي تنظر لي من نافذة غرفتها في الطابق الثاني نظرة يعجز قاموسي عن وصف مدى حَنَقِها علي، ولكنّها ليست أول نظرات تسدّدها لي مسحورة!

لكنّ الاختلاف في حدّة النظرة المسددة حسب اتّساع العين، وجحوظها، وربما حسب فصيلة الشيطان الذي يحدّق بي من خلال عَينْيَ المصابة باللبس!

فسلمتُ عليها من بعيد، وطلب أخي من أبنائه الدخول إلى المنزل، وعدم إزعاج والدتهم؛ لأنّها مريضة، وقال لي كمن يردد نصّا حفظه عن ظهر غيب مُكْرَها:

  • سلوى مصابة بالجنَ العاشق!
  • وهل كنتَ تظنّ نوعا آخر؟! جاسوس مثلا! لا بدّ أن يكون عاشقا!
  • سبحان الله!
  • هل تصدق إذا قلتُ لك بأنّي أسبّح الله دهشة كلما تحدثت معي؟!
  • لماذا؟
  • لأنّ وضعك أكثر مأساة من وضع زوجتك!
  • ليلى..
  • سأذهب الآن.. نتحدثُ لاحقا.

عدت إلى المنزل، واتّجهتُ إلى المكتبة باحثة عن بعض الكتب التي تتحدث عن السحر، والتلبس، وتصحح المفاهيم، وتساعد على التفريق بين الخرافة والحقيقة، والوهم والواقع، وبدأت أضع خطوطا على بعض الآيات القرآنية، والتفاسير، والأحاديث النبوية، ثمّ أرسلتها لشقيقي علّ وعسى يعي أبعاد المهزلة التي يعيش فيها.

وفي قمّة انشغالي، اقتربّت أمّي منّي للسؤال عن زوجة شقيقي، ولأول مرّة أصل معها إلى اتّفاق بأنّها كاذبة، لكنّ من المستحيل أن تتفق معي على أنّ شقيقتها أيضًا كاذبة حين ادّعت أنّ شيطانا عاشقا ثلاثي الأبعاد يسكنها، عن طريق سحر وُضِع في فم كلب مدفون في مقبرة!

  • كلب مدفون في مقبرة؟
  • نعم.. يا ابنتي!
  • فعلا كلب! ذلك الذي دُفِن في المقبرة!
  • ليلى!

استأذنتها في الذهاب إلى غرفتي؛ لأعود إلى صفائي الذهني، بعد يوم حافل بالجنّ والشياطين، ساخرة من الكلمات التي كانت تُسدد إليّ من بعضهن حين كنتُ أناقشهن، فقالت لي إحداهن:

  • كافرة!
  • طبعا!

فالأمر أكبر من إيمان، وكفر، ويقين، وشكّ، حين يلبس مدّعِ التدين الدينَ عباءةً مفصلة على مقاس خبثه، وحسابه البنّكي من جيوب السّذج؛ فيخلط العلم بالجهل، والمنطق بالغوغائية، ويقدمه على أساس أنّه دين!

لكنّ أكثر ما يستدعي السخرية، اتّصال شقيقي حاملًا لنا البشارة قبل العيد بثلاثة أيام:

  • سلوى شُفِيت.
  • مبارك! العقبي لك!
  • ليلى!

 

(النهاية)

 

 

[1] الأبيات من قصيدة "نزار قباني" مدرسة الحب.

تعليق عبر الفيس بوك