قراءة في التجربة السنغافورية

 

شيخة الجهورية

أعتقد أننا بحاجة ماسة إلى قراءة المسارات التنموية التي يمكن أن تمت بصلتها إلى الوضع الاقتصادي والتخطيطي في السلطنة، لاسيما ونحن على خطوات من الانطلاقة في تنفيذ الرؤية العمانية (2040) وتحقيق أهدافها، وفي السياق فإنَّ التجربة السنغافورية تجربة متفردة؛ لأنها بدأت بالإنسان وبناء النخب السياسية؛ فالجانب الاجتماعي مندمج اندماجًا تامًا في المسار الاقتصادي الرأسمالي، في ظل التنوع والتعدد العرقي والثقافي الذي كان لابد من استثماره؛ ولعلنا إن عدنا إلى تفاصيل التجربة السنغافورية وظروفها ما قبل الرأسمالية في التنمية الاقتصادية نلاحظ تشابهًا في أهم الأطر مع التجربة التنموية بالسلطنة من خلال ملمحين هما:

السلوك الإنساني وقيم العمل لدى الفرد العُماني كما دونت إستراتيجية التنمية الشاملة (عمان 2020) في تحدياتها؛ من حيث إن الإنسان العماني يترفَّع عن كثير من الأعمال المتوفرة في أسواق العمل؛ وهذا الملمح وإن كان للتخطيط التنموي دور في تكوينه إلا أنه أصبح سلوكًا ظاهرًا، نشترك مع الظروف الاجتماعية والثقافية في التجربة السنغافورية آنذاك، ونعتقد أنَّ الحكومة على مستوى مؤسساتها تستطيع إحداث تغيير في البنية الاجتماعية والثقافية في المجتمع عبر منظومات مختلفة.

خلو المساحة الاقتصادية العمانية من الاستثمارات الاقتصادية الكبرى القادرة على توفير بيئات عمل قوية؛ تجعل التنوع الاقتصادي المعتمد على الصناعة والإنتاج الزراعي واللوجستيات والاستثمار الصحي والسياحي ضرورة ملحة في هذه المرحلة.

بدأت الحكومة السنغافورية بالنظر في مسألة "السلوك الثقافي والاجتماعي" عبر دراسة فعلية لسمات المجتمع السنغافوري المتعدد في أعراقه وثقافته؛ وتحقيقًا لهذه الغاية، تعاونت الحكومة مع فريق مسؤول عما يعرف بـ"الرؤى السلوكية" للمواطنين، الذي يطلق على أفراده اسم "وحدة التحفيز"، المعنية بتطبيق "نظرية التحفيز" على السياسات الحكومية، وهي النظرية التي فاز عنها ريتشارد ثالر بجائزة نوبل، وتقوم هذه النظرية - كما يشير موقع البي بي سي-  على فكرة مؤداها أن الناس يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات أفضل من خلال سياسات بسيطة وغير ملحوظة، دون مصادرة حريتهم في الاختيار، ولفتت نظرية التحفيز أنظار الكثير من واضعي السياسات في العالم، لكن سنغافورة تحديدا كانت تتبنى استراتيجيات مشابهة للتأثير على سلوكيات المواطنين من قبل انتشار هذه النظرية بسنوات طويلة، وقد يرجع هذا لأسباب تاريخية؛ ولعل نقطة الارتكاز في هذه القضية بالذات تكمن في إدماج السلوك بالاختيار والعمل في السوق من خلال توفير بيئات داعمة؛ فالمؤسسات الصغيرة والكبيرة، والتشجيع في الاستثمار المحلي يعد بحد ذاته تحفيزا لتغيير السلوك إذا تصاحب مع تغيير السلوك الحكومي في الحوافز والإجراءات وسلسلة القوانين النافذة القادرة على التغلب على الروتين والبطء والبيروقراطية.

وإن نظرنا في واقعنا الاقتصادي نجد أننا نتميز على الوضع السنغافوري بما يضمن لنا النجاح؛ من حيث إن السلطنة تمتلك تنوعا جغرافيا، وموارد طبيعية وسياحية ثقافية؛ مما يجعل الدافع للنجاح والتحفيز أهم العناصر التي تميز السلطنة للمضي في إيجاد بيئة اسثمارية تتسم بالاستدامة والقابلية والكفاءة؛ ولكم هذا المنحى لن يتحقق إلا بتحقق جانب مهم اعتمدته التجربة السنغافورية تكمن في إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، وهو القضاء تماماً على الفساد، والكفاءة، واختيار أصحاب المناصب والنفوذ بناء على الجدارة والاستحقاق. ونجحنا، فهل تستطيع السلطنة إيجاد إرادة سياسية دافعة للقضاء على الترهل والفساد؟

أدركت الحكومة أن ضمان نجاح هذا النظام هو أن تمسك بزمام الأمور لتضمن تلبية جميع احتياجات السكان المادية، وكلفت هيئة التنمية والإسكان بإقامة مبان سكنية شاهقة، وأفضى تطوير القطاع الصناعي وزيادة الاستثمارات الأجنبية في البلاد إلى زيادة فرص العمل. وتشكلت معالم الدولة الوليدة تدريجيا، ودُشنت حملات عامة لغرس حس الانتماء لمجتمع غير متجانس يضم سكاناً من مختلف الثقافات، ودعت أولى هذه الحملات إلى الحفاظ على نظافة البيئة والصحة العامة، تحت شعارات عديدة، منها "حافظوا على نظافة سنغافورة"، و"ازرعوا الأشجار"؛ في الجانب الآخر نلاحظ أننا في السلطنة أهملنا الجانب البيئي الذي كان بحد ذاته هدرا للموارد وتجميدا للمقومات السياحية والموروث الثقافي، وركزت حملات أخرى على تنظيم الأسرة، وحث الناس على "الامتناع عن الإنجاب بعد طفلين". وفي ظل الانتعاش الاقتصادي، دُشنت الحملة القومية للتأدّب في التعامل مع الآخرين، وحملة أخرى تحث الناس على تحدث لغة المندرين، لبناء مجتمع متماسك ومتحضر يراعي كل فرد فيه حقوق ومشاعر الآخرين.

وعندما نعود إلى السياق العماني، وبالذات إلى ركائز الرؤية (عمان 2040) نجد اهتمامها بالإنسان والمجتمع؛ لتأتي ركيزة تعزيز الرفاه الاجتماعي التي تهدف إلى إرساء مبدأ العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع العُماني، بحيث ينعمون بالرعاية الاجتماعية ويكونون قادرين على التعامل مع المجتمعات الأخرى، وذلك من خلال تمكين الأسرة ودعم المرأة والاهتمام بالشباب والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين، إضافة لتمكين مؤسسات المجتمع المدني، الأمر الذي يتطلب تطوير مظلة الرعاية والحماية الاجتماعية وتشجيع الاعتماد على الذات، ودعم التنمية المحلية المتوازنة، وتقليل الفوارق وتفاوت فئات الدخل المختلفة.

وفي السياق ذاته تأتي ركيزة المحافظة على الهوية العُمانية والتراث العُماني لتهدف هذه الركيزة إلى المحافظة على التراث والتقاليد الأصيلة، والهوية العُمانية المرتكزة على القيم الإسلامية السمحة، باعتبارها الأساس الذي يمكن الاستناد إليه للتفاعل مع تيار العولمة ومتغيراتها والتعامل مع المجتمعات الأخرى بثقافاتها وقيمها المتنوعة، وأخيرا ركيزة تطوير الكفاءات والقدرات الوطنية لتضع بناء قدرات المواطنين وإعدادهم بقدر عالٍ من الكفاءة العلمية والعملية في مسار التنمية، وتسليحهم بالقوة والإرادة لبناء مجتمع مزدهر قادر على مواجهة التحديات والمتغيرات العالمية، وخاصة فيما يتعلق بتهيئتهم وإكسابهم المهارات المطلوبة للمستقبل في ظل التطور التقني الهائل في مختلف مناحي الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك