د. محمد بن عوض المشيخي
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
ارتبط مفهوم الرأي العام بظهور الحكومات والأنظمة السياسية التي تدير شؤون العامة، إذ هناك من يعتبر هذه الظاهرة رد فعل المواطن على نظام الحكم أو السلطة التنفيذية التي تتولى إدارة الدولة. ولكن لم يتم دراسته بشكل علمي إلا في مطلع القرن العشرين، وذلك عندما أدركت النخب السياسية أهمية هذا العلم وقوته وتأثيره، ودوره المهم في تدعيم استقرار الدول والمجتمعات.
من هنا تعتمد الحكومات الديمقراطية في معظم دول العالم على الدراسات العلمية التي تُعتبر بمثابة بوصلة نحو تحديد احتياجات وطموحات الشعوب؛ والتي تبنى على أساسها الاستراتيجيات الوطنية ورغبات الجمهور، وذلك من خلال اعتمادها على الذخيرة المعرفية التي تُساعد المسؤولين على اتخاذ القرارات الرشيدة والسليمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. فتلك السياسات التي تعتمد على البحوث الأكاديمية والاستطلاعات الميدانية تكون أكثر حكمة وواقعية، وتعتمد بالدرجة الأولى على أرضية صلبة تُساعد صناع القرار على توفير الوقت والجهد والمال، فضلًا عن اختيار أفضل البدائل لمواجهة الأزمات قبل وقوعها.
يُعد مركز "جالوب" الأمريكي الذي تأسس في عام 1935 من أوائل مراكز استطلاعات الرأي العام في العالم وأنجحها وأكثرها مصداقية؛ فلجالوب حاليا أكثر من 140 فرعا خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد أثبتت الأيام بأن الحكومات التي تدير ظهرها لشعوبها عمرها قصير، واستمراريتها تكتنفها المخاطر، فيمكن تشبيهها بالذي يمشي في الظلام ويمكن أن يسقط في أي لحظة. فالذي يقف في وجه هذه الحكومات المستبدة، هي إرادة الشعوب التي لا تقهر عبر الأيام والسنين، فعلى الرغم من أن الرأي العام لا يملك خزائن من المال ولا يقود الجيوش الجرارة، إلا أنه يمتلك قوة خارقة وإرادة فولاذية في توجيه الرؤساء والوزراء للانحناء لمطالب الناس المشروعة؛ ويسن للقضاة الأحكام العادلة ويوحي للمشرعين والبرلمانيين القوانين والأنظمة التي تناسب المدن والبلدان. فتمثل استطلاعات الرأي العام تقييمًا مباشرًا لرضا الجمهور أو عدمه عن أداء الحكومة لمهامها وإدارتها لشؤون البلاد. إن دراسة الأداء الحكومي في أي دولة يهدف بالدرجة الأولى إلى تجويد وتحسين الخدمات التي تقدمها الوزارات والهيئات الحكومية. فتعد الدراسات والاستطلاعات من أهم المرتكزات المعتمدة في نهضة الدول وتطوير مؤسساتها الحكومية، وبالتالي في وضع الخطط الاستراتيجية؛ لتطوير ومواكبة التطلعات المُتجددة لدى أفراد المجتمع المستفيدين من تلك الخدمات المستحقة في هذا العالم المتغير والمتسارع الخطى.
يجب الاعتراف بأن هناك غياب شبه كامل في الساحة العربية- بشكل عام والعُمانية خاصة- لمراكز دراسات الرأي العام رغم أهميتها، وذلك لأسباب عديدة؛ منها عدم ثقة المسؤولين بأهمية إنشاء مثل هذه المراكز؛ بل حتى بنتائج الدراسات العلمية التي يقوم بها الخبراء إن وجدت في الأصل. وكذلك اعتقاد البعض بأن المواطن غير مؤهل لتحمل المسؤولية في المشاركة في صناعة القرار في هذه المرحلة؛ وبالتالي هناك من يتخذ القرار بالنيابة.
عمانيًا.. شهدت هذه المرحلة من تاريخ السلطنة، قرارات مصيرية وإجراءات تقشفية متزامنة لا يفصل بين إعلانها وتنفيذها سوى بضع أسابيع أو شهور قليلة، فيشبهها البعض بالصدمات القوية المتتالية؛ خاصة قرار رفع الدعم عن الكهرباء والماء وضريبة القيمة المضافة، والتقاعد الإجباري لمن أكمل 30 سنة في الوظيفة؛ وقبل ذلك بسنوات رفع الدعم عن المحروقات. صحيح أتت هذه القرارات الحكومية الصعبة لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها السلطنة كغيرها من دول العالم، ولكن هناك من يعتقد بأن من الحكمة أن تعرض هذه القرارات غير المسبوقة على مجلس عُمان لمناقشتها ودراستها بشكل مفصل؛ لكي يتحمل جزء من تبعات هذه السياسات الاقتصادية ونتائجها على المجتمع، وكذلك تحليل تلك الحزم من الضرائب والإجراءات التقشفية ونتائجها السلبية على كاهل افراد المجتمع، ومحاولة تقليل آثارها من خلال اختيار الوقت المناسب لتطبيقها.
فإذا كانت الإجراءات التقشفية سابقة الذكر لها ما يُبررها لتحقيق أهداف خطة التوازن المالي متوسطة المدى 2021- 2024 للوصول بالوضع المالي للسلطنة إلى التوازن والاستدامة، ومعالجة الدين العام الذي يقدر بأكثر من 19 مليار ريال عمانيا. فإن قانون الأراضي الجديد قد شكل صدمة كبيرة وضربة قاسمة لظهر منتظري الدور منذ أكثر من 13 سنة خاصة النساء اللواتي نعدهن نصف المجتمع وشريكات في بناء الوطن. بل أقل ما يمكن قوله عن قانون الأراضي الأخير إنه قد فاجأ الرأي العام العُماني بكل أطيافه لضرره البالغ والمؤلم على المواطن، إضافة إلى أنه لا يخدم الحكومة في أزمتها المالية الحالية بل يجعلها تخسر شريحة كبيرة من المواطنين بدون مُبرر، فهناك من صناع القرار في عالمنا من ينمي الأزمات ويتخذ قرارات غير مناسبة في الوقت الخطأ. لقد جرت العادة أن القوانين لا تطبق بأثر رجعي في هذا البلد، بل توزيع الأراضي للمسحقين سوف يرفد خزينة الدولة بملايين ريالات في هذا الركود الاقتصادي.
من هذا المنطلق؛ الأنظار والافئدة تتجه إلى المقام السامي لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- يحفظه الله- بإعادة النظر في القانون الجديد أو على الأقل التوجيه بعرض هذا القانون على مجلس عُمان بغرفتيه الشورى والدولة؛ لدراسته ثم رفعه للحكومة بعد إجراء التعديلات المناسبة عليه، وذلك حسب النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (6 /2021) وقانون مجلس عُمان الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (7 /2021).
وفي هذا المقام نتذكر جميعا؛ بعض القرارات التي اتخذتها الحكومة في السنوات الماضية، ثم تراجعت عنها؛ بسبب ردود أفعال الرأي العام القوية تجاه تلك القرارات غير المدروسة بشكل صحيح، فعلى سبيل المثال؛ قرر مجلس الوزراء قبل أكثر من عقدين من الزمن بأن يكون الدوام الرسمي للموظفين في الوزارات والهيئات الحكومية من الساعة 9 صباحا إلى 4 مساء؛ بدلا من الدوام المبكر الحالي، و ذلك تقليدًا لبعض الدول التي يكون طقسها عادة باردا، و يختلف عن طقس السلطنة الحار، و الذي يمتد إلى أكثر من ستة أشهر في السنة.
أما في عام 2014 فقد تسبب قرار تحديد قائمة السلع التي تراقبها الهيئة العامة لحماية المستهلك بـ23 سلعة فقط. واشتعلت على إثره منابر وسائل التواصل الاجتماعي في مختلف مناطق السلطنة بمناشدة السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- بوقف القرار الذي استفز الرأي العام، ففي يومي 16 و17 يونيو من نفس العام تم رصد 100 ألف تغريدة لكل يوم تباعا من رواد وسائل التواصل الاجتماعي تحت وسم الالتماس المرفوع للسُّلطان. وبالفعل استجابت القيادة الحكيمة لمطالب الرأي العام العُماني خلال أيام قليلة من المطالبات.
وفي الختام.. إن التعجيل بتأسيس مركز لدراسات الرأي العام، أصبح من الضروريات في المرحلة القادمة، وذلك؛ لإجراء دراسات استباقية استشرافية لاستطلاع الرأي العام العُماني في مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تهم المجتمع المحلي، من أجل اختيار أفضل البدائل لمواجهة الحدث قبل وقوعه. والمشاركة بشكل فعال في إنتاج بحوث علمية رصينة متعمقة لوضع السياسات المستقبلية للسلطنة في مختلف المجالات. فإذا توفرت الموارد المالية والكوادر الأكاديمية لهذا المركز المقترح تحت مسمى "المركز العُماني للرأي العام والدراسات الوطنية"، سوف يقود إلى الريادة في دراسة وتحليل قضايا الساعة أو المتوقع حدوثها على المستويين المحلي والإقليمي بهدف وضع المعلومة الدقيقة بين أيدي المسؤولين في السلطنة؛ لتعزيز القدرة على اتخاذ القرار المناسب بمنهج علمي وموضوعي. كما يمكن للمركز أن يتم تمويله بالكامل من البحوث والاستشارات التي يقوم بها الباحثون من الأكاديميين؛ للوزارات والجهات الحكومية التي تستفيد من تلك البحوث.