فاطمة الحارثية
إن لذاكرتنا قوة عجيبة، تحثنا على المضي تحت قيودها، فهي تصر على أن تُحدد لنا الممكن، والصواب، والصعب في تهديد واضح الأثر لردع تكرار تجارب سابقة، مؤذية أو مؤلمة أو مخيفة؛ إنها تُشكل اختياراتنا، وترسم خارطة طريق ممزوجة بحبر الحذر، سواء بإدراك منِّا أو من اللاوعي. هل في ذاكرتك جملة قيلت لك، أو سمعتها ما زالت تؤثر عليك في مجمل ما تختار أو تصنع؟ وتلح عليك بقوة وتطغى على الكثير من سلوكياتك وأفعالك، وتكاد تكون المسيطرة على الكثير من ردود أفعالك؟ تمعن.
التجارب المتنوعة هي التي تُشكل الإنسان، وتهيئه للقادم من أمور حياته، ولي إيمان بأن لا شيء يمر أو يأخذ نصيبًا من انتباهي، إلا لغاية قد أٌدركها لحظتها أو في وقت آخر. إن التجارب إذا تم صقلها بالكتب الصحيحة، تُعطي الفرد قراءات وفهما مختلفا وأكثر عمقًا لما حوله من حال وأحوال؛ إننا نقابل الكثير من الناس حولنا، ممن يدعون المعرفة، والعلم بحقائق الأمور، وأصل المسائل المختلفة، ثم يتشدقون بمعايير وقيم لا يفقهون فيها إلا نبرات ترديدها، بعيدين كُل البعد عن استيعابها، ناهيك عن دراستها أو الأخذ بها أو العمل عليها؛ ربما قد اختاروا لهو الحياة، ويصعب عليهم الاعتراف خجلًا أو خوفًا من النبذ، فهم جبناء يأتون بالجرم كمحرضين، فيمارسون التلاعب النفسي، ويختلقون "الطعم"؛لإثارة الرأي وردود الفعل، ويبلغ عند البعض ممارسة التجني الذاتي، من أجل استجداء التعاطف، كنوع من صناعة الفوضى وتنفيذًا لأجندات مختلفة.
كل من يكتب على منصات التواصل المختلفة، أو يأتي بلقاءات غريبة، أو يكتب نصوصًا وعبارات ممنهجة، قد بلغ مراحل تعليمية معينة، أي أدرك القراءة والقلم، فهل الغريب الوحشي الذي ينشره أسقط عنه الفهم أو علم الواجب والمسؤولية والأمانة الإنسانية؟ أم أن الفعل قائم لخدمة عملاء الفتنة والرجعية؟ لا أعلم متى ومن أين بدأ الخلل فعليًا؟ هل من البنية التعليمية أم التربوية أم قشور العولمة أم التقليد الأعمى؟ أتى الكثير منا من بيئة صلبة، لا تسأل بل تسعى لتأخذ، لا تنتظر من أحد بل تبادر، لا تخنع لإنسان بل تصنع الظروف، لا تستجدي بل تثابر بصبر، يُشغلها العطاء عن الهواجس، ولا تقنع بما دون النجوم، بيئة فيها الفراسة التي أدنت الحياة لنا بكرامة وعزة، والجسارة نهج والاجتهاد فعل، علمتنا أن نحيا بدون وصاية لجان أو قرارات منح أو أحكام لتقويم الحال.
مررنا مؤخرًا على حملات غير واضحة تستهدف بعض المسؤولين، وتهم بالفساد والتشهير، فهل أنت يا من نصبت نفسك عالمًا وقاضيًا، ووضعت حُكمًا بوجوب إقالة واستقالة ومحاسبة هذا وذاك، أديت مسؤولياتك الفعلية وصنعت لهذا الوطن عملًا نافعًا؟ أو بذلت جهدًا من أجل وضع الحلول، أو أوفيت الأمانات حقها؟ أو حتى اضطلعت على بواطن الأمور؟ قبل التشهير باسم عُمان والمسؤولين على الملأ؟ كيف لنفسك أن تقبل بوضع عُمان السلام في ظلال القيل والقال؟ حتى وإن كنت على حق لا نقبل بالتشهير بعُمان وأيٍّ من أفراد شعبها، الكل يُجمع أن في أي مجتمع لا فساد فردي؛ لأنه لحدوث الفساد لابد من توفر خلل مجتمعي سمح بحدوث تلك الآفات والانحراف عن الطريق السوي.
ثمة تسويف واضح لحقيقة أن الدنيا تؤخذ غلابا، لنجد البعض ينتظر الوظيفة على منصات التواصل الاجتماعي، بين مقاعد المقاهي، وهم يجلدون هذا الوطن الكريم بأسواط التشهير والإساءة، وعن رأيي الخاص لا يستحقون أي فرصة، خاصة إذا قارناهم بالبعض الآخر، الذي ينتظر الوظيفة، وهو يصارع بكل إمكانياته أعمالًا مختلفة، في محاولات مستمرة دون تواكل، أو تخير لنوع العمل أو المردود، في سبيل النهوض بنفسه وصقل قدراته ومهاراته، ومن جهة أخرى، يترقب البعض الآخر التأهيل، في صمت وقبول أنه قاصر، بالرغم من كل السنوات التعليمية الطويلة التي خاضها ولم يُعترف بها، وكأن الغريب القابع على مقاعد أكثر من مليون وظيفة تم تأهيله، أو تدريبه أو حتى لدى معظمهم مؤهلات حقيقية لتلك الوظائف.
التوازن بين اتباع المتعارف والتجديد، يخلق الانسيابية المنطقية، لمواجهة التحديات المتعاقبة بوتيرة لم يسبق أن عاصرنا مثلها؟ إن منظومة مواكبة المستجدات، تحتم على الناشد أن يُدرك محاور الارتقاء الصحيح والسليم، لرفع الوعي المجتمعي، والنهوض بالمجتمع، ليستطيع الوطن أن يتوكأ عليه، إننا لا نختلف في أهمية وجود الجمعيات الخيرية والأهلية، لكنها لا تقل أهمية عن الجمعيات والمنظمات والهيئات التوعوية، التي خبى ريحها في السنوات الأخيرة، فلابد من مكمل للنهج التعليمي والأكاديمي، وذلك بإحياء منظومة التوجيه الثقافي والفكري والمؤسسي.
سمو...
أيها البعيد... كيف لجوف أن يجمع بين قلب يُريد وعقل لا يعمل، لن يستأذن الموت من الخوف عند ساعتك، لكنه قد يستحي من أعمالك العظيمة ويخفف عليك وطأته.