علي بن مسعود المعشني
الاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات والمظاهرات وما في حكمها من وسائل تعبير صُنفت بالسياسية؛ بينما هي في لب حقيقتها رسائل إنسانية توازي المجاملات في مناسبات حياتنا الاجتماعية من أفراح وتعاز.. إلخ، ففي مقصدها النهائي هي ترجمة مشاعر وإيصالها بصدق ودون وسيط.
الفارق بينهما هو ربما المطالب المعيشية أو السياسية في الأولى، والتضامن والمواساة في الثانية؛ ففي الحالة الأولى مثلًا قد لاتُلبى كافة المطالب والتعابير دفعة واحدة لأسباب يفترض فيها الوجاهة والمنطق. وكذلك في الحالة الثانية، فإن التضامن ومشاركة الفرح أو المُصاب في حزنه بكل تأكيد لن يجعل حياة الزوجين أكثر سعادة، ولن يعيد الفقيد إلى الحياة مجددًا، لكنها مشاعر تعبيرية لابُد منها لرفع منسوب الفرح والتخفيف من حدة الحزن وآثاره.
في سلطنتنا الحبيبة شهدنا اعتصامات مطلبية عام 2011 وتكررت قبل أسابيع في نسختها الثانية، في المرة الأولى رغم مشروعية مطالبها وجهوزية وصفتها إلا أنه لا يمكننا نزعها عن حُمّى "الربيع" حينها في الوطن العربي تقليدًا ومُحاكاة، بينما الاعتصامات الأخيرة يمكنني وصفها بـ"الربيع العُماني"، هذا الربيع الذي سيثمر ويزهر للوطن وعيًا وخيراً في حالة استثماره وتقبله وتقنينه بوعي وعقلانية.
الإنسان بطبيعته حين يُواجه حياة مليئة بالمحاذير والقمع الاجتماعي والسياسي لا يُصاب بـ"العجز التلقيني" فحسب، (اجترار الموروث والخوف من الجديد)؛ بل يصاب بحالة نفسية خطيرة تسمى بـ"الإضراب الخفي"، هذا الإضراب مرض جمعي من أعراضه شيوع الفساد بأنواعه رأسيًا وأفقيًا، والسلبية والإحباط بأنواعها في حياة المجتمعات والتسيب الوظيفي، والتسرب المدرسي، والرشوة، والشللية والمحسوبية، والكذب والنفاق؛ كوسائل قسرية لتحقيق المصالح والحفاظ عليها دون مواجهة عنفية مع السُلطات لعدم التكافؤ وغياب الندية، وغياب- أو تغييب- القنوات الشرعية الرسمية الفاعلة للمطالبة بالحقوق وصونها. لهذا فجميع البلدان التي يشيع فيها الفساد ويستشري كدورة حياة ومنظومة عصية على الإصلاح لاحقًا، هي بلدان تعاني من ثقافة وأعراض "الإضراب الخفي" أولًا، ومن إعوجاج تشريعي ثانيًا. والأخطر من كل ذلك هو سعي المنتفعين من هذا الفساد إلى الإبقاء عليه وضمان ديمومته؛ لأن في بقائه منافع لا تحصى لهم لتعظيم مكاسبهم وتحصينها وأنفسهم من المساءلة.
وحين يواجه الإنسان حزنه وحيدًا دون مساعدة أو مواساة من حوله يُصاب بما يُعرف في علم النفس بـ"الحداد المُزمن"؛ أي يرافقه الحزن طويلًا، وربما مدى الحياة؛ لأنه لم يُنفِّس عن مكنونات حزنه، كما ينبغي في وقته، ولم يجد من يُواسيه ويحمل معه أو عنه شيئًا من هذا الحزن.
الظلم والقهر والقمع والاضطهاد ظروف تُنتج إنسانًا حاقدًا على كل ما حوله، وهذا الحقد بطبيعة الحال ينقسم إلى قسمين: حقد واعٍ وحقد غير واعٍ؛ والحقد الواعي يحمله عادة الإنسان المتعلم والمدرك لعواقب الأمور والذي نشأ نشأة سليمة وتلقى تربية أخلاقية سليمة. وعكسه تمامًا الإنسان الذي يحمل الحقد غير الواعي، والذي تتساوى عنده الأنوار والظُلم، وكما وصف الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي.
الاعتصامات الأخيرة في سلطنتنا الحبيبة، أقرأها شخصيًا من زوايا نفسية واجتماعية وحتى سياسية من واقع سلميتها ومظهرها وانضباطها وبمعزل عن أسبابها والتي لا تخفى على أحد. فما لفت نظري بحق أن الاعتصامات أصبحت في قاموسنا العُماني المُعاصر وسيلة مطالب وتعبير حقيقية، لا يمكن الهروب منها أو نكرانها، وبالتالي سيتراجع منسوب الخوف والحاجة إلى أساليب وأدوات الإضراب الخفي، والتي ستختفي بقدر المساحة التي تمنحها السُلطات للمجتمع بالتفهم والمشاركة ورفع منسوب الوعي، وبقدر حرصها على تقنين وترشيد هذه المظاهر واحتضانها والارتقاء بها إيجابًا واعتمادها كوسيلة من وسائل التعبير في ثقافتنا المجتمعية المُعاصرة. وبقدر وعينا بتفهم تلك الحاجات وضرورة التعبير والتنفيس الواعي عنها- كونها مشاعر وانفعالات طبيعية- ستبقى في حجمها وصورتها الطبيعية، وبهذا سنُنتج ثقافة اعتصامات عُمانية خالصة لا تتأثر بالتقليد أو المحاكاة إلا في السياق التعبيري الإنساني العام، متسلحة بالوعي وقيم الوطنية والثوابت، كما إنها مُحصنة من الاختراق والتوجيه السلبي من الداخل أو الخارج..
وبهذا يُمكننا القول إننا سنتجنب ثقافة الإضراب الخفي تدريجيًا ونُجنب البلاد والعباد مظاهر ذلك الإضراب وأدواته، والتي تُشكل مظهرًا سطحيًا ناعمًا وخادعًا وكاذبًا عن الدولة والمجتمع، يجافي الحقيقة تمامًا، وينخر في المكتسبات الوطنية والموروث القيمي بصمت حتى الفناء..
قبل اللقاء: فلنعبد الله عبر حب الوطن.
وبالشكر تدوم النعم.