عقلياتٌ مغرَّر بها!

د. صالح الفهدي

تابعتُ لقاءَ فتاةٍ لا تكادُ تصلُ العشرينَ من عُمرها، وقد حَمَّلتْ عقلها الصغير بوِقْرٍ ثقيلٍ من الأحمالِ التي نقلتها من مُجتمعاتٍ غربيةٍ نشأت فيها أفكارٌ وحركاتٌ لها ظروفها المتعلِّقةُ بتلك المجتمعاتْ إمَّا في سيرورةِ ارتقائها، أو في هويِّة انحدارها وقد يحدثُ الاثنانِ في الأوانِ ذاته.

ويبدو أنَّ الفتاة لم تُبح بكلِّ ما تستبطنهُ في عقلها الصغير، أو أنها لا تعي مخاطر ما تقوله، فهي تحسبُ أنها ترفعُ شعارات الحريَّةِ للمرأة والمساواة بينها والرُّجل، وهي شعاراتٌ ترفعها بعض الحركات الغربية ذات الأبعاد الشاذَّة، والمفاهيم المُنحرفة، ثم تجدُ من يتبنَّى شعاراتها البرَّاقة في أصقاعٍ أُخرى من العالم، وتجدُ من يصفِّق لهذه الأبواق دون أن يعي بأنَّه يصفِّق لانحطاطٍ إمَّا يُرديه، أو يتبرأُ منه لاحقاً..! يقول المُفكّر عبدالوهَّاب المسيري: "الأيديولوجية هي أداة تعبيرية لتوصيل رسالة، بل هي قد تفلح عندما تخيب، أي عندما تشوه الواقع فتطمس بعض الحقائق وتعكس وتؤكد بعض الحقائق الأخرى، فتوصل رسالة مجردة للمؤمنين بها فتجندهم حولها". هؤلاءِ يدسُّون السمَّ في عسلِ الكلام، ويبهرونَ بعض الأغرار بخطابيَّةٍ جذَّابة، حينما يتَّهمون المجتمع بشتَّى أنواع الاتهامات، أو يحيلون إلى بعضِ القراءات لأفكار منحرفةٍ لشخوصٍ شاذُّون في أفكارهم، مضطربون في نفسياتهم.

هناكَ عدَّة أُمور خطيرة في هذا المنحى، أولها: الخطرُ المادي، وهو أن تصل بعض الحالات في ذروة أزمتها النفسية، إلى اضراباتٍ تؤدِّي بها إلى إنهاءِ حياتها؛ لأنها أرادت أن تبعث برسالة احتجاج خرقاء، لم تستطع أن تبعثها بُطرقٍ لا يسمح بها مجتمعها المحافظ، بل إن المجتمعات الغربية ذاتها تعارضها خاصَّة في التجمُّعات الرسمية.

ثانيها: خطر ممارسة الاعتقاد بعد تبنِّي أفكار شاذَّة لحركاتٍ منحرفة، والأمرُ في هذا يبدأُ من التقليعات والموضات التي تسوَّقُ على أنها عصرية، وقد ذكرتُ سابقاً أن نجم هوليود الشهير سلفستر ستالوني كان يروّج لقلمٍ في أحد أفلامه قائلاً: إنه القلم الذي يجلبُ الحظ، وكانت ترصِّعه جمجمةٌ في أعلاه، وهي شعار عبدة الشيطان!

أما الخطرُ الثالث: فهو امتداد التغرير بعقول أُخرى غير ناضجةٍ، تحسبُ أنها تناصرُ ما فيه مصلحتها، وحريتها، فإذا بها توقِعُ نفسها في أشراكٍ، ومستنقعاتٍ قد لا تستطيع أن تخرجَ منها لاحقاً، أو أنَّها تخلِّفُ فيها عُقداً لا تفتأُ تلاحقها وخزاتها، واضطراباتها النفسية.

أمَّا الخطر الرابع فهو تبنِّي بعض المراكز التي هي مجرَّد صفحات على شبكة المعلومات الدولية، وتقدِّمُ نفسها على أنها معنية بحقوق الإنسان، وهي تتقصَّدُ في الباطن إفساد المجتمع، وإثارة الفتنة بين شرائحه، وشيوع الفاحشة بين مكوناته إنتقاماً وكراهيةً من المجتمع بأسره، له، أقول تبنِّيها لهذه الأفكار التي يدعو لها بعض الفتيات أو الفتيان من الأغرار، وتجدُ فيهم هذه المراكز وسائطَ لها لنشرِ أفكارها السَّامة التي تنقلها من حركاتٍ غريبةٍ، وأفكارٍ ملوثَّة، وتثيرها في مجتمعها ليس لأن المجتمع يعاني من تلك المشكلات تحديداً، وإنَّما لأنها هي ذاتها تعاني من اضطرابات نفسية، ولوثاتْ فكرية، فيحملها ذلك إلى نشرِ سمومها في المجتمع، وأنا على يقينٍ بأنَّها إن اجتازت هذه المرحلة (العمرية/ الفكرية) فإنها ستخلعها كالثوبِ كما خلع الذين اعتنقوا الأيديلوجيات الماركسية والشيوعية واليسارية وغيرها أثوابهم، وردُّوا إلى صوابهم!

وهنا فإننا لا ننادي بتقييد الأفكار، ولكن بتحصين النفوس؛ لأنَّ المجتمع يملكُ التحصين، لكنه لا يملك إيقاف الإنسان عن تعريض نفسه للأفكار الهدَّامة، والمفاهيم المغلوطة. وحينما دُعيتُ ذات مرة لإحدى المدارس في مناسبةِ يوم القراءة، وقد تبيَّنَ لي أنَّ بعض الطلاب قد انغمسوا في قراءاتٍ لا أعتقدُ أنها مناسبةً لهم في تلك المرحلة، فكان أن وجَّهتُ لهم نصيحةً بالتدرُّج في القراءات وعدم القفز؛ لأن القفز ينتجُ عنه تخلخلٌ في البنية الفكرية، فإذا بأحدِ الحضور الذي يدَّعي أنَّه إعلامي يعارض نصيحتي فيقول لهم: "اقرأوا ما شئتم"، ولا أعتقدُ أن هذا الرجل انتبهَ إلى أن مثل هذه الدعوة ليست تطويرية للذات التي تستلزم التدرُّج حسب فهمي، ويؤيِّد كلامي هذا بحثٌ نُشر في مجلة (إسلامية المعرفة) جاء فيه: "إن عملية القفز والتجاوز التي تمارسها قراءات حداثية عديدة تمَّت، وتتم بصورة ثورية لا تطويرية، وباتجاه التمرد والرفض من خلال الإزاحة والإحلال، ولعل هذا القفز جعل هذه القراءات تنتمي إلى بنية معرفية تكاد تكون مغايرة تماماً للبنية المعرفية الإسلامية، لا سيما في نظرتها تجاه الخالق والمخلوق والخلق، مما جعل أغلب القراءات الحداثية للنص والتاريخ والتراث تتيه في فلك منظومة تُغاير المنظومة التي أُسست عليها الذات ليغدو صوتها نشازًا وتغدو مراجعتها للتراث، وقراءتها للنص القرآني، واقعةً في باب استرضاء الآخر من خلال إشعار الذات بالنقص، أو واقعة في خانة المماحكات المعرفية، أو تصفية الحساب مع التاريخ والتراث من خلال تقويضه أو نبذه من خلال منظومة لا تمتُّ إلى الذات بصلة". (ص 8/ العدد 63).

إننا هُنا ندعو إلى مواجهة مثلِ هذه الخطابات الملوَّثة، والأدمغة المغسولة بالنقاشات الهادئة، وبالرعاية الفكرية السليمة،  وهي أداةُ من أدوات التحصين؛ لأنَّ معالجة الأفكار لا تتم إلا بالأفكار، فالإشكالية تكمنُ في تبنِّي أفكار غريبة، وفي هذا يقول الكاتب بدر الغامدي في مقالةٍ له بعنوان "غرائب الأفكار: اعتناق وانعتاق": "إنَّ إِحدى مشكلات مدافعة الفكرة الغريبة أنها تستبطن فطرة ملوثة منحرفة، وحينها يكون الصراع أعمق؛ لأنك تحارب فطرةً وليس فكرةً"، وهذا يحتاجُ إلى تحصين إيماني عميق، تقوم به عقليات ذات تمتلك الذكاء العاطفي، وقادرة على تفكيك الأفكار الملوثة ودحض حججها؛ إذ يقول الكاتب نفسه في موضع آخر: "إنَّ كل نفس ليس لها نور من الوحي يضيء جوانبها؛ هي عرضة للقوادح الشيطانية الشاذة، مهما بلغت من الذكاء والعلم الدنيوي، وهو واقع مشاهد".

لا يمكن للمجتمعُ أن يتنصَّلَ من تصويبِ أبنائه، لكنَّه يجبُ أن يملكَ من أدوات الإقناعِ ما يستطيع تنظيف عقولهم من الملوثات الفكرية، كما إن عليه أن يتنبَّه إلى الأفكار السامَّة التي تسري في أوصاله عبر الإعلام، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو بعض المشاهير (شهرة التفاهات لا شهرة الاستحقاقات)، ولا يجب عليه تحقير هذه الأفكار واعتبارها من التفاهات، فأعظم النار من مستصغر الشرر، وما خُفي في العقليات المغسولة أعظم!!