لماذا أسميتني.. أفراح؟!

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

"ما يُزرع داخل أنفسنا، ينبت على ملامحنا". (جاين أوستن).

*****

- لماذا أسميتني أفراح؟!

سألتُ والدتي مئات المرّات، وكانت ترد عليّ:

-والدك رحمه الله هو من اختار لك الاسم!

سألتها ذات وجع نفس السؤال:

-لماذا؟!

فردّت غاضبةً:

 كُفِّي عن طرح هذا السؤال ؟!... بأيّ منطق تفكرين؟!

وكنت أتساءل مثلها:

-بأيّ منطق تُفكر فتاة في السابعة عشر من عمرها؟!

 الجميع اتفق على ضحالة تفكيري كلما طرحت هذا السؤال؟!

فتاة مراهقة؟ غبية! قبيحة جدًا! بدينة تتدحرج بين رشيقات! قصيرة القامة بين فارعات الطول!

رغم ذلك اجتهدتُ كثيرًا في منافستهن في الحركة!

كان مجرد سماع صوت أمّي تنادي يجعلني أركض مُسرعة؛ لتلبية ندائها.. لكنني أتأخر؛ وكأنّ الأرض تجرّني للخلف حتّى لا أصل!

فتلتحم نظراتي البائسة مع نظرات أمي المُحبّة المليئة عطفًا وحنانًا.. والمحبطة أيضًا! لأعود إلى غرفتي مليئة بالحسرة والخذلان.. غارقة في كتابة يومياتي في دفتر أخفيته تحت السرير حتّى لا يتلصص عليه أحد!

ليلة عيد ميلادي أشعلت ثماني عشرة شمعة! على كعكة رخيصة الثمن! هكذا أثرت ضحك الجميع.. قالوا لي:

 تطورنا.. تكفي شمعة تحمل الرقم (ثمانية عشر)!

كانت غمزاتهم، وهمساتهم تقول بأنني سألتهم الكعكة وحدي! وها أنا كيان بأكمله.. ألتهم نفسي!

نمت باكية.. ومتى نمت بلا دموع؟!

وخدّرت نفسي بالأمل.. وبأنّ أبوابه ستكون يومًا ما مشرعة!

وأفقت على شيء من وجع!

غيرتُ ملابسي.. وحملتُ حقيبتي.. مُتجاهلة صوت أمي الدافئ:

 تعالي واشربي الشاي قبل الخروج من المنزل.. أفراح.. كُلي شيئًا قبل الخروج!

أغلقتُ باب المنزل.. وعبرت الطريق من منزلي إلى المدرسة.. بخطوات بطيئة أثقلتها هموم السخرية المُتراكمة ليلة البارحة وأنا أنسلخ من عمر إلى عمر آخر!

خطوة للأمام.. وعشرات للخلف حتى لا أصل إلى المدرسة.. حيث تتسع مساحة السخرية ويرتفع الرقم في حساب احتقار مشاعري!

شعرت بشيء ما يصدمني.. فسقطت على الأرض..

صراخ الطالبات.. صوت رجل.. استغاثة سيدة!

تداخلت الأصوات وتداخل الألم الجسدي مع النفسي.. ودخلت في غيبوبة..

 وكان آخر وجه أتذكره.. وجه لامرأة جميلة جدًا.. كأنّها من الجنة!

لم أستوعب كثيرا ما حدث لي..

أمي تبكي قرب سريري.. وشقيقاتي في ذهول وشفقة..

تمنيتُ لو قضيت عمرًا كاملًا.. لا يتغير هذا المشهد ولا يتحرك!

كانت أمي فعلا تبكي..

كانت تمسح جبهتي؛ فأشعر مع كل لمسة منها بانتعاش ودفء!

شقيقاتي أيضًا تجردن من غرورهن وما زال أثر الدموع في عيونهن بطريقة جعلتني أُحدق فيهن بامتنان وشكر..

هذا ما أحتاج إليه الآن.. أم حنونة.. وشقيقات محبّات!

سمعتُ صوتًا عذبًا كأنّه نغم في أغنية شاعرية..

وأقبلت صاحبة الصوت.. تحمل باقة ورود ملونة..

 لطالما حلمتُ بها.. لطالما تمنيتُ الحصول على وردة واحدة.. وها هي ذي باقة بأكملها توضع على الطاولة المُقابلة لسريري؛ فأتأملها وأنتقل معها إلى عالم الأحلام والفرح..

حدّقتُ في وجهها إنّها هي.. إنّها نفس السيدة يوم الحادث.. حين سقطتُ على الأرض وأقبلت مذعورة نحوي!

سأَلَتُ أمي:

 كيف حالها اليوم؟

حدجتها بنظرة غاضبة، ثم قالت لها:

 بخير..

اقتربت منّي مُبتسمة:

 حمدا لله على سلامتِك.

كانت أمي تشعر بالغضب اتجاه السيدة ظنّا منها أنّ الحادث وقع بسببها.. ولم ترغب بأن تعرف بأنّني المخطئة!

فأنا من اعترض طريقها فجأة.. وأنا من ألقى جثته البدينة عليها؛ لأتخلص من الحياة!

غادرت السيدة.. وغادر شيء ما معها!

كأنّها جذبت روحي تُحلق حولها..

هل هي أنا في عالم ما؟!

هل هي أنا في نسخة أخرى؟

هل هذا ما يُسمى التقاء الأرواح؟

أغمضتُ عيني على حلم جميل.. وتمنيتُ لو تطول إقامتي في المستشفى.. لكن الأحلام لا تدوم.. ولا حتى الواقع أيضًا!

عدتُ إلى المنزل..

ألقيتُ جسدي المنهك على السرير.. وكان دفتري أيضًا مُلقى على الأرض، فهو الآخر لا قيمة له.. حاولت النهوض لانتشاله من على الأرض، وكتابة شيء ما..

لكنني تراجعتُ بعد سماع صوت رسالة، وصلت إلى هاتفي:

كانت رسالة منها:

 كيف حالك اليوم؟! أتمنى أن تكوني بخير.

أجبتها:

 الحمدلله أنا بخير.

ردّت علي:

 حمدا لله على سلامتك.. سأزورك اليوم بإذن الله؛ لأطمئن عليك.

وبعد ساعة من الانتظار.. أقبلتْ مبتسمة.. وبدت أكثر جمالًا.. ذلك الجمال الروحي المألوف.. الذي يقربنا من الآخرين.. ويشعرنا بأنّهم أقاربنا بطريقة ما!

كانت تتحاشى النظر إلى أمي التي كانت ترمقها بعداء ملحوظ.. أمي الطيبة الحنونة تحولتْ إلى وحش؛ لأنّها لا تستطيع استيعاب أنّها كادت تخسرني بسبب هذه السيدة!

وكنت أتمنى لو تأتي إحدى الجارات؛ لتبعدها عنا!

 لكنهن يأتين عندما لا نرغب بهن، ويختفين عندما نرغب في وجودهن بشدة!

أخيرًا تعبت أمي من نظراتها، وتركتنا..

فاقتربت مني وقالت:

 لقد خفتُ كثيرًا عليك..

اكتفيتُ بابتسامة..

فلم أعتد هذا الزخم من الاهتمام.. ولم أعرف كيف أرد؟!

فابتسمتْ لي.. كأنّها أدركت بأنّني لا أملك قاموسًا يعينني في الردّ على الكلام العاطفي!

أجالتْ نظرها في الغرفة.. ووقع بصرها على دفتري المُلقى على الأرض..

نهضَتْ لانتشاله.. واستأذنتني لقراءة ما فيه!

فتحت دفتري.. وظننت بأنّها ستضحك بأعلى صوتها؛ لكنها تأثرتْ..

قالتْ:

 أسلوبك في الكتابة يدل على موهبتك في كتابة القصة القصيرة.. أكثر ما أعجبني شعوري كأنّني أقرأ عن نفسي!

 لا وجه للمقارنة! فأنا أكتب عن فتاة بائسة.. وأنت فتاة فوق مستوى الوصف.

 الكتابة الناجحة هي المؤثرة.. هذا ما تمتلكينه يا عزيزتي.

 شكرًا لكِ على الإطراء!

فتحت دفتري مرّة ثانية لتقرأ المزيد، ثم أغلقتْ الدفتر، ورفعتْ رأسها وقالتْ:

 اسمعي.. لدى أخي شركة لإنتاج القصص المُبرمجة، ويحتاج إلى قصص تُخاطب الأطفال.. ما رأيك لو تتعاونين معه!

لم أجب من هول الصدمة! لم أكن أعرف الردّ المناسب؟!

 هل أسرع بالموافقة؟ هل أرفض؟ هل أنا كاتبة؟!

لاحظتْ ترددي.. وقالتْ مشجعة:

 لا ترفضي يا عزيزتي.. اعتبريها تجربة!

 إذا كانت تجربة.. لا مانع لدي!

أعطتني كلمة "تجربة" مجالًا واسعًا للكتابة بأريحية.. دون قيد والتزام.

وبدأت أبحث عن مواضيع مناسبة لقصص الأطفال.. اهتماماتهم.. ما الذي يجذبهم؟ ما الذي يحبون؟

وكرّستُ وقتي وطاقتي وجهدي لدوري الجديد في الحياة؛ لأنّه جعلني أقوى ولا أهتم بانتقاد أو تعليق!

لا أهتم بمظهري.. بل شعرتُ بجمالي الداخلي.. وبرغبتي في القراءة بنهم وشغف؛ لأطور موهبتي في الكتابة..

مرت الأيام والشهور.. وأصبح لدي عشرات القصص الموجهة للأطفال.. وعشرات البرامج المُنفذة.. ومبلغ من المال.. ولم أعد أنتظر هبات أمي وعطاياها!

 بل خصصت لها مبلغًا شهريًا، أبهجها رغم بساطته.

وتغيرت نظرة شقيقاتي لي.. وتلاشت التعليقات الساخرة.. وحل محلها التقدير والاحترام وتوفير جو مليء بالسكينة والهدوء للكتابة!

كانت الخطوة الثانية اختيار جامعة للدراسة.. وبالفعل التحقتُ بإحدى الجامعات الخاصة بتسهيل حكومي لذوي الضمان، وخصصتُ وقتًا للدراسة، ووقتًا للتأليف والكتابة.

وها أنا ذا..

فتاة جديدة.. بروح جديدة.. وواقع جديد.

فتاة لها دور فعال غير الأسى والبكاء والدموع!

فتاة تطابق اسمها مع واقعها.. ولم تعد تعاتب والدتها كلما رأتها.. ولم تعد تسألها:

لماذا أسميتني أفراح؟!

تعليق عبر الفيس بوك