من يوميات السيد برات (3-3)

 

علي بن سالم كفيتان

شغَّل كاتب البرقية في الساعة الثامنة صباحًا الجهاز اللاسلكي وهو الوقت المُحدد لتقديم التقرير الصباحي للقيادة، كان هناك الكثير من الضجيج القادم من الجهاز، حاوَل نائب العريف ضبط قنوات الاتصال وتخفيف حدة التشويش والصفير المندفع من البرقية، استمع كعادته يومياً لبلاغات المراكز الأخرى وهو يُسجل ملاحظاته في دفتر صغير بجانبه، يبتسم أحياناً، وفي أحيان أخرى تمتد يده لكوب الشاي العسكري الأسود ذي المقابض البيضاء المتدلية، يلمها معاً ويرتشف وهو مغمض العينين أحياناً مستمتعاً بخلطة شاي العسكر؛ فالغرفة ضيقة لا تكاد تتسع إلا له ولجهاز الاتصال وطاولة حديدية صغيرة يضع عليها الشاي ودفتر الملاحظات.

ومن النافذة الوحيدة يمر عليه الرجال وهم راجعون من الزيارة الصباحية لأسرهم لحلب الماشية وترتيب الأمور العائلية، فيتحلق الجميع حول العلم وسط الثكنة، ويبدأ طباخ المعسكر بتقديم خدماته الصباحية، أبريق ضخم يرغي ويزبد كجمل هائج تعلوه رغوة مكرملة ورائحة نفاذة للشاي والحليب المخلوطين بعناية فائقة، ثم تأتي صحفة الفطور المُكدسة بخبز البوري المنفوخ من الوسط تزينه حبات ذهبية وفقاعات بيضاء كذرات السكر في غاية الجمال، فتختلط روائح الخبز بالشاي فيشمها من كان خارج المعسكر.

حضر السيد برات وجلس للمرة الأولى على الأرض مع الجنود الريفيين، والتهم معهم الفطور، وبعد لحظات خرج كاتب البرقية مبشراً الجميع بنقل السيد برات لموقع آخر، قائلاً لقد تلقيت الخبر الآن دون أن يلتفت لوجوده، بينما ظلَّ الجميع صامتًا، ولم يُعقب على الخبر، وفي تلك اللحظة التقت عيون الكاتب مع وجه السيِّد برات فساد صمت لوهلة، ثم أردف الكاتب إنك ذاهب إلى الخط الأخضر سيدي، عندها وقف الضابط الإنجليزي منتصباً وأمامه أعضاء الفرقة في صف غير مُنتظم، وبينهما علم السلطنة يرفرف بقوة، ليعزف مع حبل السارية سمفونية الرحيل للسيد برات. عندها قدم القائد المنتدب تحيته العسكرية الأخيرة للعلم، وأنصرف إلى حجرته يلملم أغراضه، وقبل الرحيل خرج ومعه كومة من الأوراق والدفاتر وقذفها في النَّار المشتعلة بين الرجال خلف غابة أشجار الكليت (شجرة محلية معمرة) التي يحتمون بها من زخات مطر بدايات الخريف؛ فيستمتعون بالمطر والنار معاً، فقال السيد برات هذه جميع التقارير التي كنت أكتبها عنكم لم تصل لأحد في القيادة كما كنتم تتوقعون؛ بل كنت أسجلها للتنفيس عن امتعاضي، وها هي اليوم تختفي في رماد ناركم التي لم تنطفئ منذ قدمت إليكم.

وفي ضحى اليوم التَّالي قدمت الطائرة العمودية ومعها مُنتدب جديد، بينما غادر السيد برات يحمل أمتعته على دفعات إلى الطائرة التي تثير الغبار بشدة وما هي إلا دقائق حتى أقلعت مجددًا، واستقبل الجنود الضيف الجديد الذي كان متوجسًا كسلفه، ذابت الأيام هنا واستمرت عجلة الحياة تدور بنفس التراتبية، تم ترقية سعيد إلى نائب عريف، وحصل بذلك على 10 ريالات أضيفت إلى راتبه البالغ 70 ريالًا، بينما استمر كاتب البرقية في نداءاته الصباحية والمسائية للتحضير والاستماع إلى كل جديد قادم من القيادة، وفي أحد مساءات يوليو جاء خبر مفاده أنه بينما كان السيد برات في إحدى الدوريات وكعادته المُتعالية على الطرف الآخر من الصراع وقف على حافة جبل شاهق محركاً ذراعيه إلى أعلى وصاح بأعلى صوته مستنكراً... أين الثوار؟ فتحول إلى كومة متكدسة على الأرض لا حراك فيها.

في صباح اليوم التالي قدم المنتدب الجديد للمعسكر، فعلم بالخبر فعاد إلى غرفته وأحضر عمامة كان يرتديها السيد برات وعلقها على بندقيته التي حفر لكرسيها في التراب وتراجع عدة خطوات، ثم جثا على ركبتيه وطأطأ برأسه للبندقية والعمامة، بينما أعضاء الفرقة ينظرون لهذا السلوك العجيب بشيء من الاستغراب. استمر كذلك حوالي ربع ساعة، بعدها أومأ بيده على صدره مرتين وختمها بجبهته وأخذ البندقية والمصر وقفل راجعاً إلى حجرته في طرف المعسكر ولم يطلب غداءً أو عشاءً ذلك اليوم.

عاد الجنود إلى جلستهم حول الموقد وترتيب دورياتهم اليومية، وكل ما حضر أحد يتم أخذ علومه وأخباره بلهجة أهل الريف (خبور) فيرد هو (خبور خر)؛ أي أنه ليس لديه علوم أو أخبار، ثم يرد عليهم متسائلاً (ضطر شيء)؛ أي هل استجد شيء بعدي، فيتم إخباره (برات ألهك ديكلث خروج)؛ أي إن السيد برات غادر هذا العالم، فساد حزن عُميق وخاصة بعد علمهم أنه لم يُقدم عنهم أي تقرير سلبي للقيادة رغم المغامرات التي كانت تحدث بينهم، فقد حاول جاهداً تحويل معسكر الريفيين هذا إلى ثكنة محاربين، كما تعلم في الأكاديمية العسكرية، لكنه لم يفلح.