أزمة وظائف أم توظيف؟!

 

د. خالد بن حمد الغيلاني

khalid.algailni@gmail.com

@khaledAlgailani

توفير الوظيفة التي تكفل العيش الكريم والأمن للمُواطن، أمر كفله النِّظام الأساسي للدولة وأكده القانون، وهو حق واجب على الدولة؛ من حيث الإعداد الجيِّد والمُناسب وإكساب الفرد ما يتطلبه العمل من مهارات عامة، وقدرات خاصة، وكذلك التأكد من قدرة سوق العمل على استيعابه والاستفادة من خدماته، وتوظيف المهارات التي اكتسبها بشكل يُحقق نتائج إيجابية تتوقعها مختلف الأطراف.

هذا الأمر من حيث التنظير جيِّد ومقبول تماماً، لكنه من حيث الواقع بحاجة ماسة إلى عدد من الأمور؛ التي إن لم تتوافر يُصبح الأمر خبط عشواء ضرره أكثر من نفعه، ويمكن إجمال هذه الأمور فيما يلي:

  1. الإجابة على سؤال: هل التعليم للتعليم أم لسوق العمل؟ وفي يقيني أنَّ التعليم الأساسي الذي ألزمنا به النظام الأساسي يكون تعليماً من أجل التعليم، ثم يتم التركيز على التعليم النوعي والمهني اللازم لاحتياجات السوق ومتطلبات التنمية المستدامة.
  2.  تحديد الاحتياجات الفعلية وفق خطط عشرية من الوظائف التي يتطلبها سوق العمل كماً ونوعاً وتتفق مع تنميته وتطويره؛ وهذا يتم وفق تقصي أعلى معايير متطلبات النمو ومعرفة وتوقع تقلبات السوق والأوضاع الاقتصادية والمالية، وآثار التقلبات السياسية والاجتماعية وما يُمكن حصره من تأثيرات الكوارث والأزمات الكونية، وبطبيعة الحال الوصول إلى نتائج حقيقية صعب جداً، لكن ينبغي ألا تقل نسبة التوقع إلى الواقع عن 80‎%‎، وهذا لا يمكن بلوغه دون عمل مشترك بين مختلف شركاء التنمية والتطوير بما فيهم القطاع الأكاديمي والمجتمعي ولعل سائلاً يسأل لماذا خصصت هذين بالذكر هنا؟ لأنهما ببساطة ما يكونان مغيبين في كثير من المشاهد رغم أنهما ركيزتان هامتان فيما نبتغيه من تطور وتقدم.
  3.  تحفيز مختلف القطاعات خاصة الاقتصادية والتنموية واللوجستية؛ وهذا يحقق أمرين؛ الأول: ضمان استمرار هذه القطاعات، والثاني: قدرتها على استيعاب النمو المطرد في أعداد الباحثين، مع أهمية التجاوز للاقتصاد الريعي الذي يعتمد على ما تُقدمه الدولة من مشاريع إلى مشاريع ذات بعد استراتيجي تنظر متطلبات السوق وتعمل على توسيع نطاق عملها داخليا وخارجيا، إضافة إلى التركيز على المشاريع النوعية المُتعلقة بقطاع التكنولوجيا واللوجستيات وغيرها من القطاعات ذات الاستمرار.
  4.  الإحلال المبني على تعزيز الكفاءة وتحقيق متطلبات الجودة واستمرار الأداء، سيكون له أثره من ناحية تقليل الفجوة بين أعداد الباحثين والعاملين لصالح العاملين، ومن ناحية أخرى زيادة الثقة في أوساط القطاع الخاص بجودة العماني وقدرته على أداء مهامه بمستوى عالٍ من الاتقان.
  5.  إعطاء اقتصاد المعرفة اهتماماً خاصاً، وتنمية البحوث العلمية والدراسات الميدانية التي تعمل على تطوير مُختلف القطاعات وتحرص على استمراريتها، ذلك أن الاهتمام بالبحث النوعي والابتكار. ومن ثم تبني هذه الأفكار وتحويلها لواقع هو السبيل الأمثل والمضمون نحو تعزيز الصناعات المختلفة، ولاسيما تلك المُتعلقة بالتطوير التكنولوجي والطبي.
  6. تمثّل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة جانبا مهما في تحفيز الشباب نحو العمل التجاري الحُر الذي يُحقق لهم الآمال والطموحات، ولكن هذا القطاع يتطلب لنجاحه الحماية من المستثمر الأجنبي الذي يعمل في ذات الأنشطة والتي لابد من قصر العمل بها على العمانيين، كما يتطلب حزماً مستمرة من أجل تطويره مع رقابة عليه لضمان أنه يسير في المسار الصحيح، إضافة إلى ذلك فإنِّه بحاجة ماسة إلى قوة الطلب مُقارنة مع العرض وهذا يحتاج إلى العمل على سياسات الانفتاح وليس الانكماش الاقتصادي.

إنَّ قضية الباحثين عن عمل- والآن رافقتها قضية المسرحين والمتقاعدين الذين لديهم التزامات خططوا لسدادها سنوات خفضها قرار الثلاثين سنة- كلها قضايا ذات بعد اقتصادي وتأثير مجتمعي، هذا التأثير الذي له انعكاسات كثيرة معلومة وخطيرة معروفة إذا لم توجد له الحلول، والحلول التي أعنيها هنا تلك الحلول الجذرية وليست حلولاً وقتية، وحقيقة الأمر أنَّ الحل الجذري لأي مشكلة لا يمكن بلوغه من جهة واحدة؛ بل يتطلب ذلك تعاضد وتعاون مختلف الجهات الحكومية والخاصة والمجتمعية في إطار تكاملي مدروس، له أهدافه الواضحة وبرامجه التنفيذية المحددة وجداوله الزمنية التي تُحدد مواعيد التوظيف ولكل الفئات، وقد يبدو للبعض صعوبة هذا الأمر؛ نعم هو صعب دون رؤية واضحة ومع نظرة تشاؤمية.

لكنه سهل جداً إذا قام الجميع بما عليه من واجب، وهذا ليس كلاما إنشائيا مرسلا، ولكنه كلام يؤيده الواقع، فكيف لا نستطيع استيعاب الباحثين والمُسرحين، وفي القطاع الخاص من الوافدين ما يفوق عددهم بضعف أو ضعفين. كيف لا نستطيع استيعابهم وفي ذات الوقت يمضي القطاع الخاص في رفد قطاعه بالوافدين مستفيداً من القانون الذي يُعطيه حق تعيين الوافد وفقاً لنسب معينة من التعمين. ولا يخفى على ذي لب وبصيرة أنَّ الشركات تُعمّن في قطاعات العمل دون المتوسط والمهن المساعدة، ولا ترى العماني كفؤا للوظائف الإشرافية والقيادية إلا في القليل النادر وهو ما لا يمكن قبوله تمامًا

هذا أمر مستغرب ومستهجن؛ مستغرب لأنه آن الأوان ليأخذ العماني مكانه وموقعه بينما جزء القطاع الخاص لا عين ترى ولا أذن تسمع، ومستهجن لأن هذا الجزء من القطاع الخاص وفي ظل أحداث تتوالى وخروج كان متوقعاً للشباب، وهو واقف مكانه لا يحرك ساكنا، ولا يؤدي للوطن واجباً، ليس هذا فحسب بل أجده ماضياً نحو إحلال الوافد بالوافد، متحججًا بالتخصصات، مستفيدًا من مثالب القانون وثغراته، معتمدا على ضعاف النفوس وعبّاد المال وعشاق الريال.

خلال الفترة الماضية وما صاحبها من أحداث يراها البعض حقاً ويراها الآخرون غير ذلك، ولكني أراها ردة فعل طبيعية وإشارة متكررة لضرورة إيجاد حل جذري عاجل وفوري للباحثين والمسرحين، والمشكلة أن الوظائف متوافرة؛ بل وكثيرة، لكن نحن بحاجة ماسة عاجلة وفورية لإدارة هذا الملف من خلال التعديل على النصوص القانونية وإلزام الشركات- خاصة العملاقة منها- بالتعيين الفوري بقوة القانون، ولا يوجد ما يمنع في الأخذ بالتخصصات المتقاربة؛ إلا تلك التخصصات المرتبطة بحياة الناس كالطبية والطبية المساعدة، أو التدريب على مهارات ومتطلبات الوظيفة وهو على رأس عمله، مع وجود جداول محدد فيها أسماء الباحثين والمسرحين وفقاً للأقدمية، مع تحديد مؤسسات استيعابهم التي عليها فورا التنفيذ بإنهاء عقد الوافد وإحلال العماني وتدريبه. وحقيقة بغير هذا الأمر الملزم لن نصل بعيدًا.

لا يُمكن السماح بالاستمرار في الضغط على الحكومة، في ظل جائحة ألقت بظلالها القاتمة على العالم أجمع، وظروف اقتصادية خانقة شددت الضغط وعقدت الأمور، وباتت تعصف بالجميع؛ ذلك أن الحكومة لا يُمكن أن تتحمل وحدها هذا الضغط، ونعود للمربع الأول بتوفير وظائف لا يحتاجها القطاع الحكومي، سرعان ما تعود بنا إلى ترهل هذا القطاع، وبالتالي الدوران في دائرة مفرغة تسبب ضغطًا على أجهزة الدولة وخططها التنفيذية والتنموية. ومما يُؤسف له أنَّ لدينا قطاع خاص لا يدرك في معظمه الواجب الوطني المنوط به، ورغم مرارة هذا الأمر لكنه واقع. هنا لا سبيل إلا بالإلزام لهذا القطاع وبشكل فوري؛ لأنه في حقيقة الأمر لا أزمة وظائف لدينا بقدر ما هي أزمة توظيف تتطلب القيام بالواجب ورد الجميل. نضيف إلى الباحثين والمسرحين ضرورة مراعاة المتقاعدين بحزم علاجية تطبق على أرض الواقع حتى تجاوز فترة الركود والجائحة ومن ثمَّ النظر في كيفية علاج أوضاعهم بشكل أكثر شمولية وديمومة.

حفظ الله الوطن الغالي عُمان، ووفق سلطان البلاد المُعظَّم للخير والمأمول وهيأ له أسباب النجاح والفلاح والتقدم، وحفظ أبناء عُمان ويسر لهم مفاتيح السعادة والسؤدد.

تعليق عبر الفيس بوك