من يوميات السيد برات (2- 3)

 

علي بن سالم كفيتان

نظر السيد برات لمرافقيه ثم أكمل قيادة المركبة، ولم ينطق بكلمة حتى وصل المعسكر ودخل غرفته مسرعًا، وأغلق الباب بقوة. مرَّ الرجلان من أمام النافذة المفتوحة فشاهدا السيد برات منكبًا على طاولته الحديدية يكتب بحماس شديد فقال أحدهم للآخر: شكله بيكتب تقريرًا عن جولته البطولية هذا المساء، وعادا إلى الثكنة؛ حيث يجتمع أعضاء الفرقة حول موقد النار وعلى الفور قدم لهم بخيت إيجازاً عن المهمة التي قاما بها مع السيد برات فضحك الجميع، وفي هذه اللحظة دخل السيد الإنجليزي فدعوه للجلوس، لكنه أصرَّ على الوقوف وسأل مرافقيه عن اسم المرأة التي قابلوها هذا المساء، ومن هو أبو الطفلين اللذين كانا معها.

هنا خرج أحدهما معه وصاحبه للغرفة، وذكر له أنَّ ذكر أسماء النساء والأطفال في التقارير العسكرية ليس مُعتادًا هنا، لذلك أنصحك بالتنازل عن هذه الجزئية، لكنه أصرَّ، فقال له: ما دامك مُصر اكتب عندك اسم المرأة هو: هيروم ذري بنت حارأوطين من بيت فدون (اسم وهمي فيه مزج بين أسماء الأشجار المحلية والحجارة)، فسجل رغم استغرابه لصعوبة الاسم. لكن الجندي قال له موضحًا: أسماء النساء عندنا ليست كأسماء الرجال، أما الطفلان فهما سعيد وسلمى أبناؤها، ووالدهما قد توفي هنا. تهللت أسارير السيد برات وقال بحماس شديد: جندي سعيد أنت رجل مُخلص ورائع، وأدخل يده في جيبه وأعطاه قطعة شوكولاته، وقال له: سأرفع عنك تقرير لتحصل على رتبة نائب عريف.. رجع سعيد خطوتين للخلف، وضرب تحية للسيد برات وانصرف.

وبعد صلاة العشاء دخل الجندي الموعود بالترقية إلى المخزن، وجمع ما استطاع من مؤن غذائية في جونية وانصرف بها إلى الناحية المُظلمة من المعسكر، وخرج يتلمس طريقه في تلك العتمة حتى وصل تحت شجرة الميطان (الزيتون البري)، فوضع حمولته تحتها وقفل راجعاً من حيث أتى، وعند ولوجه من الباب الصغير، وجد أمامه السيد برات مُتجردًا من ثيابه ما عدا "شورت" طويل والكاب الذي لا يفارق رأسه، فسلم عليه، وهنا هاجمه السير برات وسأله مُتهمًا: عما يفعل في هذا الوقت، فقال له: كنت ذاهبًا للخلاء سيدي، وعندها تراجع السيد الإنجليزي قليلاً عن الباب، فانصرف سعيد وتركه واقفًا هناك، فصاح السيد برات بأعلى صوته: تعال سكر البوابة، فقال له سعيد غير ملتفتٍ إليه: سكرها أنت فهي قريبة منك وإذا أردت البحث في الخلاء عن الثوار فستجد ما يسرُك. وعند عودته للثكنة سأله صاحبه فقال: لقد وضعت لهم ما يكفيهم من المؤن في المكان المُعتاد قاصدًا المرأة والأطفال.

لم تكن الأمور تسير على ما يرام بين السيد برات وجنود المعسكر؛ فلم يعد أحدٌ يكترث لأوامره، وصار يكتب تقارير ليل نهار، ويتحسس من كل قادم إلى المعسكر من المواطنين. وفي أحد الأيام قال له سعيد: ما رأيك سيدي أن تذهب معي للبيت، فهو قريب، ومنها تشرب حليب وتتعرف على الأسرة. فوافق السيد برات على غير العادة، وحزم أمتعته وتأبط مسدسه وأخذ بندقيته، وغادرا راجليْن نحو القرية التي يقطنها سعيد. وفي الطريق صادفهم قطيع من الأبقار فصار كامل القطيع ينخر ويتحلق حولهم، وفي هذه اللحظات فر السيد برات وتسلق شجرة قريبة فلاحقه كامل القطيع الهائج فقام بحشو بندقيته وهو في أعلى الشجرة، بينما سعيد يناديه: أنزل سيد برات ولا تخف هذه الأبقار مُسالمة، لكنها اشتمت رائحتك الغريبة عليها، لذلك هي تتابعك. وأمام هذه الموقف نزل السيد برات من على الشجرة، وأطلق سيقانه للريح وخلفه القطيع وسعيد في إثرهم يقول بلهجته الريفية: (يعثرك أوعذ... أستود أجهك كمز)؛ أي (الله يعثرك... سود الله وجهك اقفز)، فقفز برات من أحد المنحدرات وأصيب برضوض، لكنه عاد سالمًا إلى المعسكر يجره الجندي سعيد الذي فقد الأمل في الترقية الموعودة، بعد هذه الجولة العاثرة مع القائد، وعندما انتهى برات من تجبير جروحه استدعى سعيد للتحقيق حتى منتصف الليل.

وبعد عدة أيام وأثناء جولة المشي اليومية للسيد برات في المناطق المجاورة للمعسكر، وجد طعامًا تحت شجرة الميطان التي عادة ما يضع تحتها الجنود المؤونة لبعض الأُسر المعسرة، وتعرف على نوعية المؤن أنها من مخزن المعسكر، وفي تلك الليلة انسل في الليل ورابط وحيدًا حول الشجرة بكامل عدته وعتاده. وفي النصف الأول من الليل، أتى أحد الجنود كعادته لتفحص الموقع، وهل المؤن نفذت أم ما زالت بالمكان؟ عندها تعرف السيد برات على الجندي، لكنه لم يُحرك ساكنًا في لحظتها، وبعد عودة الجندي، عاد السيد برات حاملاً معه أدوات الجريمة؛ وهي المؤن التي وجدها ودخل غرفته، وانكب كعادته على كتابة تقرير الخيانة العظمى.

وفي الصباح استدعى الجميع وشرح لهم الموقف، وأنه يفضل اعتراف الجندي بجريمته الشنعاء، وهي تهريب المؤن للعدو، وبهذا قد يخفف عنه العقاب، لكن الجميع ضحكوا من الرجل وقالوا له: إنهم متفقون مع القيادة السابقة على هذا النهج، وبدل أن يأتي المواطنون المحتاجون إلى المعسكر، تُوضع لهم المؤن تحت هذه الشجرة يوميًا. هنا صاح السيد برات: "أنتم لا تصلحون كمُحاربين.. أنتم خونة". فانصرف الجميع وتركوه بين كومة أوراقه يرغي ويزبد ويقلب عُلب الشاي، وكراتين البسكوت التي وجدها تحت الشجرة.

وللحديث بقية مع السيد برات...