عبيدلي العبيدلي
قضايا كثيرة أثارتها انتفاضة التصحيح الفلسطينية التي ما تزال تفاعلاتها مستمرة، كي تفرض نفسها كحقائق مرة بالنسبة للكيان الصهيوني، وترغمه على القبول بها، بعد أن كان تعجرفه يبيح له أن يتجاهل نظيراتها السابقات.
لكن تبقى أهم تلك القضايا وأكثرها حضوراً في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هي رضوخ إسرائيل، ومن طرف واحد، ولأوَّل مرة في تاريخها منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية، لوقف عملياتها العدوانية، دون أن يتحقق ذلك بطلب من الانتفاضة الفلسطينية. نجم عن ذلك توقف الصدام العسكري، وولوج النزاع مرحلة الصراع السياسي/الإعلامي. بدأت طلائع هذه المرحلة بوصول وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط، في جولة مكوكية بدأها بزيارة تل أبيب. ومن المتوقع أن تشهد المنطقة خلال الأشهر القليلة المقبلة تدفق موجات أخرى من الرحلات المكوكية، من أجل الوصول إلى صيغة سياسية ترسم معالم مستقبل الصراع.
ربما تكون خسائر المعارك السياسية أقل، عندما نتحدث عن الشهداء والدمار الذي تلحقه نظيرتها العسكرية بالممتلكات. لكن خطورة مخرجات الحوارات السياسية أنها تفرض حقائق قاسية على مستقبل خارطة المنطقة الجيو--سياسية، يصبح من الصعوبة بمكان تغيير ملامحها. وفي حين تحصر نتائج الصدامات العسكرية فيما تتحمض عنه من اتفاقات بين طرفي الصراع، نجد أن دائرة مخرجات الثانية (السياسية) تشمل أيضاً، وعلى المستوى الشخصي، من جلسوا على كراسي طاولات المحادثات السياسية.
ومن ثم، ونحن نرصد علامات هبوب عواصف المعارك السياسية، تبرز أمام ناظرينا ملامح محتملة ربما ينتظرها مستقبل الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي.
يسبق ذلك التأكيد على حقيقة سوف تفرض نفسها على مسار ذلك الصراع في مستقبله القريب، ونهاياته البعيدة، وجاءت على لسان د. عزمي بشارة في توصيف مسارات الانتفاضة، حيث نجده يقول "الكلام عن الانتصارات مُبكر، فالنضال عملية طويلة وتراكمية ... وأن الاستمرارية هي الأهم اليوم، لأن الردّة غالباً ما تحصل بعد كل موجة من الهبات والانتفاضات عن طريق التشكيك في جدوى النضال والمواجهة... ولكي لا تذهب دماء الشهداء هدرا، يرى بشارة أن الأهم هو النفس الطويل وفهم النخب الفلسطينية أن الطريق الذي ساروا عليه منذ أوسلو فشل وأن خط مناشدة إسرائيل وتوسلها لا يجدي ... لأنَّ الفلسطينيين إن ناضلوا يكون العالم معهم على عكس وهم صفقة القرن(واختصر المعادلة بالقول)، إما إعادة منظمة التحرير إلى الحياة أو بناء مؤسسة ديمقراطية جديدة لتمثيل الفلسطينيين" في الداخل وفي الشتات".
الحقيقة الاستراتيجية التي تفرض نفسها اليوم على طريق الصراع. وتكشف عن النقطة التي وصلت إليها مدخلات طرفية تشير إلى أنهما سيدخلان مرحلة طويلة ستتراجع أمامها إفرازات الصدامات المسلحة لصالح النضال السياسي/ الدبلوماسي، دون أن ينفي ذلك اندلاع معركة هنا، أو نشوب صدام هناك. لكن سيبقى الوجه الرئيس للصراع ترسمه الأسلحة السياسية/الإعلامية.
من جانبه، شرع العدو الصهيوني في التهيؤ لهذه المرحلة، من خلال حملة الاعتقالات التي شنها في صفوف عرب 1948، مصحوبة بتصعيد سياسات "التطهير العرقي" القائمة على طرد سكان القدس من الفلسطينيين، كي يحل مكانهم من يدعون ملكية الأرض التي سيجلى عنها ملاكها الأصليين من الفلسطينيين.
بهذه السياسة التي تصب في معين الصراع السياسي/الإعلامي يهدف العدو إلى خلق حقائق على الأرض تميل بكفته في موازين الصراع من جانب، وتشيع حالة من اليأس في صفوف المواطنين الفلسطينيين، فتدفعهم نحو حالة من الإحباط من جانب آخر. هذا الترحيل القسري الممزوج بزرع بذور اليأس من شأنه تعبيد الطريق أمام الكيان الصهيوني كي يحصد من خلال هذه السياسة، ما عجزت عن تحقيقه آلته العسكرية، كي تنقلب الموازين من جديد لصالح مشروعات ذلك العدو.
مقابل ذلك ستواجه القيادة الفلسطينية تحديا تاريخيا مصيريا إن هي أرادت أن تجني ثمار ما حققته لها معاركها العسكرية التي خاضتها برشقات متتالية من صواريخ متعددة الأهداف، أربكت خطوات العدو الصهيونية العسكرية، كما أشرنا.
خوض هذه المعركة السياسية، يضع أمام القيادة الفلسطينية تحديات تاريخية تتوزع على ثلاثة محاور.
المحور الداخلي الفلسطيني، وينطلق من قدرة هذه القيادة، التي حققت ما حققت في الميدان العسكري، أن تتجاوز خلافاتها التاريخية، وتصهر نفسها في شكل من أشكال العمل التنظيمي الوحدوي يقود الشعب الفلسطيني في مرحلة الصراع السياسي/الإعلامي كي تحصد مكاسب ما زرعته انتصاراتها العسكرية. قد تبدو هذه المهمة سهلة من مظهرها الخارجي، لكنها صعبة ومعقدة في صلبها الداخلي، عندما يؤخذ في عين الاعتبار طبيعة التشرذم التاريخي الذي تعاني منه الثورة الفلسطينية.
لا نقول ذلك بهدف التشكيك في وفاء القيادة الفلسطينية أو أصالتها، أو حتى كفاءتها. فمسار الصراعات الفلسطينية الداخلية، لعل آخرها ما نشب من خلافات سبقت اندلاع انتفاضة "سيف القدس"، والتي لم يوقفها سوى اندلاع تلك الانتفاضة ردا على ما قامت به القوات الصهيونية من اعتداءات واعتقالات، وما صاحبها من سياسات تهجير وإجراءات طرد لأهالي حي الشيخ جراح في القدس، يؤكد صحة ما نحذر منه.
هنا ستجد الثورة الفلسطينية نفسها أمام تحديين أولهما الوصول إلى صيغة تحالف وطني فلسطيني قادر على إنجاز مهام التحرر الوطني أسوة بحركات وطنية أخرى، لعل الأقرب منها للحالة الفلسطينية هي حالة جنوب أفريقيا، مع الاختلاف بين نتنياهو وفردريك دي كلارك. فبينما فاجأ الأخير العالم بإعلانه أن سياسة الأبرتهايد قد فشلت. وألغى جميع قوانين الأبرتهايد العنصرية، يزداد الأول عنصرية، ويمعن في الأخذ بسياسة الأبرتهايد كي يعزز من قبضة الصهاينة، ولا يكف عن الاستفادة من تلك السياسة لدغدغة عواطف اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني، كي يضمن إخفاء فساد حكومته وفساده شخصيا من جانب، ولضمان استمراره رئيسا للكيان الصهيوني من جانب آخر.
المحور الثاني وهو المحيط العربي، وهو أكثر تعقيدا، لم تعد الظروف التي ولدتها انتفاضة التصحيح الفلسطينية تسمح باستمرار العلاقات العربية الفلسطينية على النحو الذي سارت منذ العام 1948. هناك حاجة ملحة لتغيير معادلات تلك العلاقة بما يخدم أهداف النضال الفلسطيني، ويقلص من مساحة الخلافات الفلسطينية - العربية، دون ان يعني ذلك تحميل القضية الفلسطينية ما يسير آليات هذه العلاقة.
يقود كل ذلك حاجة الساحة الفلسطينية إلى قيادة ترقى إلى مستوى الانتصارات التي ولدتها ثورة انتفاضة التصحيح الفلسطينية. وربما يكون هو التصحيح الأهم والأكثر ثورية. فمثل هذا التصحيح هو صمام الأمان الذي يضمن جني تلك القيادة ثمار ما زرعته هذه الانتفاضة التصحيح الفلسطينية، وحان وقت قطافها.
ولا يمكن إغفال المحور الثالث، وهو الدولي، الذي تحتاج القيادة الفلسطينية إلى التريث عند صياغة معالم الاستراتيجية التي ستأخذ بها من أجل معالجته، نظرا لتعقيداته المتشعبة.