من يوميات السيد برات (1- 3)

 

علي بن سالم كفيتان

لم يكن السيد برات سعيدًا بندبه للعمل ضمن مفرزة ريفية؛ لذلك ظل متبرمًا تعلو جبهته علامات التعجب وغالبًا ما يضع يديه حول خاصرته ويقف معوجًا للخلف، فعند وصوله على طائرة عمودية تجوَّل في المعسكر الرابض في منطقة منبسطة تحفها القمم من كل صوب، يعود ليقف على رؤوس بضع رجال يتحلقون حول مرجل من الشاي المخلوط بالحليب المعجون والمسمى "مفقوص"، والذي يأتي في هيئة معجون أسنان تمسد منه عدة عبوات إلى داخل صفرية الشاي فيصبح مذاقه نادرًا.

طلبوا من السيد برات الجلوس، ولكنه ظل واقفًا يُحملق في السماء التي باتت تظلم شيئًا فشيئًا؛ حيث بدأت تتجمع السحب الركامية السوداء، مُعلنة قدوم المطر، وأهمل الريفيون الرجل الذي يرون فيه إنجليزيًا مُتعجرفًا.. وفجأة نطق السيد برات بكلمات عربية ركيكة قائلا: من خطط هذا المعسكر؟ أجابه سعيد باللهجة الريفية متهكمًا (أيك)؛ أي والدك، وطبعًا تبسم الجميع بينما ظل السيد برات دون إجابة فأردف قائلًا: أين الطباخ فأشار له أحدهم إلى صندقة محمد نور الباكستاني أو كما يُسمونه هم (محمد يشع) بلهجتهم الريفية.

ظل المنتدب الإنجليزي للمعسكر وحيدًا في غرفته منكبًا على كتابة رسائله بشكل يومي لعائلته، وفي بعض الأحيان يكتب تقارير أمنية، ولم يختلط بأعضاء فرقته كسلفه السيد حثينوت، الذي تمَّ ترويضه فأصبح ريفيًا بامتياز، ولا تكاد تفرقه عنهم سوى قصر قامته وشعره الأشقر المفلفل؛ فهو يلبس القميص والإزار، ويُشارك في جولات المصارعة الريفية (شنوصوت) والوثب الطويل (كرين)، والقفز العالي لبلوغ مكان مرتفع، ووضع علامة (لحيين). كما أجاد اللهجة وأصبح يتكلمها بطلاقة، لذلك ارتفعت أسهم الرجل القادم من الريف الإسكتلندي في هذه الأنحاء، وكان يُحدِّث أعضاء الفرقة عن بطولات وليام والاس (أحد الفرسان الذين قادوا الإسكتلنديين ضد إنجلترا حتى مقتله)؛ وهم يصغون له بعناية كل ليلة على وهج النَّار لم يكن يخالفهم كثيرًا؛ بل كان مطيعًا، لكنه كان مؤثرًا؛ فكل ما يرغب فيه يستطيع أن يجلب له الأغلبية الكافية بكل سهولة، وهذا نوع من الدهاء يفتقده السيد برات القادم من الكليات العسكرية المُنضبطة؛ حيث تمشي الأمور كالساعة، فوجد الأمر منفلتًا تمامًا، ولا يُعترف بالبرتوكول العسكري؛ لذلك ظل مشمئزًا وغير متجاوبٍ طوال الوقت.

بعد عصر أحد الأيام الشتوية الباردة، شغّل السيد برات سيارة اللاند روفر الوحيدة في المعسكر بعد أن شحنها بالوقود من الدرامات الحديدية، ورغم نشاطه غير المعهود لم يلتفت إليه أحد من أعضاء الفرقة الريفية، ولم يذهبوا ناحيته ليعلموا ما يخطط له في هذه الساعة المتأخرة من النهار، ربما التجاهل وعدم الرغبة في التعاون مع ذلك القائد المغرور الذي لا يكاد ينزع بزته العسكرية وقبعته المعقوفة، وبعدها ركب وصار ينخر بالسيارة نخرًا يكاد يسمعه من هو على بُعد عدة كيلومترات، فسأل أحد الرجال الآخرين عن هذا السلوك العجيب، فأجابه آخر (ديحررنس) أي يقوم بتسخين مكينة السيارة، بينما هو يرغب في لفت انتباههم، وفي تلك الأثناء قدم مسرعًا وأمر المجموعة للانضمام إليه؛ فاندهش الجميع، كيف لهم أن يركبوا جميعاً معه وعددهم يفوق الخمسة؟! فسأله بخيت: إلى أين الوجهة؟ فردَّ عليه: زيارة استطلاع لبعض المواقع المُحيطة بالمعسكر، فركب معه اثنان، أحدهما بجواره والآخر في الخلف، ممسكين ببنادق الأفن (FN وهو سلاح نمساوي). وانطلق السيد برات بالسيارة مسرعًا في الفضاء الفسيح أمام المعسكر مخلفًا كومة غبار هائلة، بينما حاول الرجلان التشبث بالمقاعد كي لا تقذفهم المطبات خارج المركبة المكشوفة، وهم يرددون (جهوك طيف... جهوك طيف)؛ أي الله يكفيك، بينما هو ينشد بلغته الإنجليزية مقتطفات من السلام الوطني للمملكة المتحدة.

ولكون الطريق لا يتعدى الكيلو مترين هدّأ الرجل من سرعته والتفت لمرافقيه متسائلًا: وين الثوار؟ نُريد نحصل بس واحد! وفي هذا اتهام مُبطن لأعضاء الفرقة بالتساهل مع الثوار، فقال له أحدهم بتهكم: (ترف لفناك) أي تقدم للأمام، فوقف المركبة وسأله عن الترجمة الفورية، فقال له الآخر: الثوار لا يتواجدون هنا في المناطق المكشوفة، وهذه السيارة لا تمشي سوى بضعة كيلومترات حول المعسكر؛ لذلك لن تجدهم هنا، ابحث عنهم في الأحراش والغابات مستر برات.

قفل الرجل راجعًا، لكنه هذه المرة لم يكن مسرعًا، ولم يكن يُنشد، وفجأة استوقفتهم امرأة ومعها طفلان، فخاطبها السيد برات بلهجته العربية المكسرة "إيش معك هنا" تجاهلته تمامًا وتوجهت بالكلام للرجل الراكب جنبه بلهجتها الريفية الرشيقة، ودار بينهما حديث سريع، وعقبها قال له الريفي: انطلق للمعسكر سيد برات، رفض وأصرَّ على معرفة سبب وجود المرأة، وما الذي كانت تتحدث عنه، عندها قال له الرجلان بلسان رجل واحد (فدك بك لهم كل ترف)*... وللحديث بقية مع السيد برات.

-------------

ملاحظة: مذكرات السيد برات مستوحاة من الواقع والأسماء الواردة في القصة رمزية.