علي الرئيسي
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
مر أكثر من عقد منذ أن قام محمد بوعزيزي بإشعال النَّار في نفسه، في سيدي بوزيد في تونس في 17 ديسمبر 2010 والذي أدى من غير أن يقصد إلى إشعال أكبر تظاهرات حصلت في الوطن العربي منذ انتهاء عصر الاستعمار. فقد أدت هذه المظاهرات إلى سقوط نظام ابن علي في تونس، وإلى تنحي مبارك في مصر، استقالة علي صالح في اليمن، إلى نهاية دموية لنظام معمر القذافي في ليبيا، وإلى حرب أهلية طاحنة في سوريا.
خرجت الجماهير العربية وكان هدفها تحقيق الكرامة الإنسانية، وأرادت أن تتحرر من القهر، الفقر،القمع، الفساد، وعدم المساواة الذي يهمن على الوطن العربي منذ عصر الاستعمار، واستمراره لعقود طويلة في ظل الدولة الوطنية الاستبدادية. عندما خرجت الشعوب العربية إلى الشارع كانت تسعى إلى الحرية، والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن بعد مرور أكثر من 10 سنوات على الربيع العربي فإنَّ معظم هذه الدول شهدت انتكاسة ولم تستطع هذه المجتمعات تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها هذه الثورات، عدا تونس إلى حد ما. مُعظم المجتمعات العربية تعيش حالة من الاحتقان، انسداد الأفق، والتشرذم الداخلي اليوم أكثر من أي وقت سابق.
ترجع أسباب هذا الإخفاق إلى عوامل عديدة سواء كانت ذاتية، راجعة إلى طبيعة القوى التي قادت التغيير، أو أسباب خارجية تعود إلى التدخل الخارجي. يقول الدكتور محمد البرادعي في مقال له في "بروجكت سِندكت" إن الوصول إلى الديمقراطية ليس كالحصول على القهوة الفورية، فهي بحاجة إلى بيئة مناسبة، كما أنها بحاجة لثقافة تقبل الاختلاف والتنوع. الوطن العربي منذ الاستعمار ومرورا بالدولة التسلطية يفتقد لهذه البيئة والثقافة. الشعوب التي تظاهرت كانت تكره هذه الأنظمة الاستبدادية التي مارست عليها القمع والحرمان لسنوات طويلة ولكن هذه الجماهير كانت تفتقد إلى قيادة تمتلك رؤية موحدة للتغيير. الخبز، الحرية، والعدالة الاجتماعية الشعارات التي تم حشد الجماهير خلفها، ولكن من الواضح أن تحقيق الديمقراطية على أرض الواقع كان أمرا صعب المنال. فالعالم العربي في مجمله يفتقد إلى مجتمع مدني مستقل وحيوي، إلى نقابات عمالية، أحزاب سياسية، جمعيات، وصحافة مستقلة. لذلك كان من الصعب الاتفاق على خارطة طريق موحدة انتقالية بين القوى السياسية المختلفة المشاركة في الثورة. هذه الخلافات أثرت بشكل كبير على وحدة هذه القوى وخاصة التناحر بين القوى الديمقراطية العلمانية وبين قوى الإسلام السياسي. والذي أتاح الفرصة لقوى الثورة المضادة وبقايا فلول الأنظمة القديمة لاستعادة قوتها وتنظيم قواها. لقد أصبح واضحا أن الصراع بين قوى الإسلام السياسي وبين الدولة العميقة المتمثلة في الجيش والأمن، وكل له أجندته الخاصة. وبات واضحاً أن هذه القوى لديها حساسية مفرطة من الديمقراطية.
يقول الأكاديمي الأمريكي ذو الأصول الإيرانية آسف بيات في كتابه "ثورة بدون ثوار" وفي مقارنته بين الربيع العربي والثورات التي حصلت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وبالذات الثورة الإيرانية ضد الشاه، وثورة الجنوب العربي ضد الإنجليز: إن ِثورات الربيع العربي جاءت بعد انتهاء الحرب الباردة، حينما كانت فكرة الثورة إجمالا اختفت من الفكر الاجتماعي والنضال السياسي. وعندنا ثلاث من الأيدلوجيات ما بعد الكولونيالية (الاستعمار): الوطنية المعادية للاستعمار، والماركسية اللينينية، والإسلام الجهادي، والتي ناضلت من أجل الثورة بدأت في الضمور، أو تم القضاء عليها، وحل محلها البراديم (النموذج) النيوليبرالي، وبالتالي عوضا عن النضال من أجل المساواة، وتغيير علاقات الملكية الاجتماعية، ودولة الرفاه، وسلطة الجماهير، التي كانت شعارات الثورات في زمن الحرب الباردة. ما تمخض في "ما بعد الاشتراكية" هو مسألة الحريات الشخصية، المجتمع المدني، السوق الحرة، والإصلاح الدستوري والقانوني.
امتلكت ثورات الربيع العربي قوة اجتماعية، وقوة في الشارع، ولكنها فشلت في السيطرة على مؤسسات الدولة. وبقيت الثورة في أغلبها سلمية، ولكنها فشلت في إحداث تغيير بنيوي، وبقي المجال السياسي مفتوحًا، مفضلين الانتخابات الحرة، ولكن المجال ظل قابلاً للاختراق من قبل قوى الثورة المضادة، والتي تميزت بقدرتها على حشد الجماهير وخروجها للشارع للتظاهر، ولكن كانوا يفتقرون إلى رؤية سياسة واستراتيجية للتغيير. تبنوا نظاماً يتسم بالمرونة والأفقية، ولكن في نفس الوقت كان يُعاني من التشرذم الداخلي. كان اهتمامهم منصبًا على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتطبيق القوانين لا على توزيع الثروة، والعدالة الاجتماعية. كانوا يفتقرون إلى تنظيم سياسي قادر على أن يحل محل مؤسسات الدولة المنحلة. وبالتالي هي كانت ثورة بالنسبة لحشد الجماهير ولكنها حركة إصلاحية إلى ما كانت تصبوا إلى تحقيقه.
طبعاً هذا لا يُقلل من التضحيات الكبيرة التي قدمتها الشعوب، كما لا يُمكن أن نقلل من شأن قوة القوى المضادة للثورة، أو التدخل الأجنبي في صالح مصالح الدول والشركات الأجنبية الكبرى، ولنا في ليبيا مثال واضح.