مدرين المكتومية
الرؤية المسبقة أو "ديجا فو"، كلمة فرنسية تعني "شوهد من قبل"؛ وهي ظاهرة أطلقها العالم إميل بويرك في كتابه "مستقبل علم النفس".. والديجا فو ذلك الشعور الذي ينتابنا عندما نرى شخصاً أو حدثاً ونظن أن هذا الموقف تكرر في الماضي، دون أن نعلم متى أو أين وكيف حدث ذلك!
دائماً ما تحصل معنا هذه المواقف التي نُحاول جاهدين فيها استذكار شخص، أو موقف، أو حدث، أو لحظة، أو مكان دون أن نستطيع تحديد ذلك بدقة، كل ما نعرفه في تلك اللحظة أننا "شاهدناه من قبل". يدفعنا هذا الموقف لاكتشاف مدى ما فقدناه من معلومات ارتبطت بهؤلاء الأشخاص أو تلك الأحداث، وأنها كانت في يوم من الأيام حلمًا عابرًا، لم يبقَ من تفاصيله سوى اليسير.
هذه الحالة دائمًا ما يُلازمها شعور بالتردد، أو الخوف وكثير من الأحيان الغرابة، كونها شيئًا يحدث معنا وكأنه حدث من قبل، شيء ما كنَّا نؤمن أنه سيتحقق، مثل لقائنا بشخص لا نستطيع أن نتذكر سوى ملامحه، ولكن لا ندري أي الصدف جمعتنا به؟ ولا في أي مرحلة أو محطة التقيناه سابقاً؟ ولا نعلم أي الأقدار ألقاه على طريقنا؟ لا توجد إجابة واضحة للأسئلة التي تدور في أذهاننا، لذلك نظل دائماً في وضع استغراب وعدم تصديق، خاصة إذا ما كانت إجابة الطرف الآخر: "إنها المرة الأولى التي نلتقي فيها الآن ولم يسبق هذا اللقاء حتى لحظة عابرة جمعتنا معاً".
وقد أطلق عالم النفس سيجموند فرويد على هذه الظاهرة مصطلح "الأمر الخارق للطبيعة"؛ بحيث إن تلك التجربة أو اللحظة أو ملامح الشخص عادة ما تكون قد زارتنا في أحلامنا، والبعض الآخر يكون فعلًا حدثًا سابقًا مر علينا في الماضي البعيد، ويعود ليتشكل معنا في لحظة ما لكن بفقد الكثير من تفاصيله.
عادةً هذه الظاهرة تنقسم إلى ثلاثة أنواع؛ كما قسمها علماء النفس، إما أن تكون شعورا مُعيناً ينتابنا تجاه موقف معين، أو شخص بعينه، أو حدث يلامسنا، وقد تكون "الديجا فو" عبارة عن شيء رأته أعيننا، ونظرنا إليه بتفاصيله المختلفة؛ كأن ترى مدينة، أو طريقاً، أو لافتة في أحد الأزقة، وربما يكون مقهى صغيرًا بطاولات مستديرة وبألوان داكنة، وغيرها من التفاصيل التي قد توقظ فينا بركانًا خمد منذ زمن؛ مثل لوحة جدارية رأيناها ذات مساء ومنذ زمن بعيد، ثم نجد أنفسنا نقف أمامها بكل رهبة على حائط أحد المتاحف لكن في بلد لم يسبق لنا زيارته، أو بملامح شخص يعمل بوظيفة مرموقة، لكننا التقينا نفس تلك الملامح مع بائع متجول! وأخيرًا قد تكون تلك الظاهرة عبارة عن زيارة معينة، كدخولنا لمنزل نشعر فيه أن زاوية من زواياه قد رأيناها من قبل، أو حديقته قد كنَّا فيها ذات نهار لكننا لا نتذكر متى!
كل تلك الأنواع ما هي إلا دليل على الـ"ديجا فو"؛ تلك الظاهرة التي لا نعلم يقينها حتى الآن ومهما حاولنا فلن نستطيع، حتى إن الكثير من علماء النفس حاولوا أن يصنفوها بأنها جزءٌ من الحالة النفسية التي يعيشها الفرد والتي ترتبط عادة بحالات انفصام الشخصية والقلق ولكنهم فشلوا في ذلك، كونها ظاهرة يكاد كل الأشخاص يعيشونها.
إننا أمام حياة أخرى قد عشناها، وحياة أخرى نعيشها، وحياة أخرى سنعيشها إن منحنا القدر مزيدًا من الوقت، لكن في كل الحالات لا يمكننا أن نتجاوز تلك اللحظة التي نجد أنفسنا فيها غير مصدقين لما نراه، أو ما نشعر به، وما نعيشه، فهي في العادة جزء منِّا ومن ذاكرتنا، حتى وإن كانت تلك اللحظات تنتمي لما يسمى بـ"شذوذ الذاكرة"، والتي تُبنى على إعطاء مشاعر خاطئة، إلا أنه أمر لا يمكن نكرانه، وشيء يحدث كل يوم مع ملايين البشر؛ وهو أمر طبيعي لأنَّ الكثير منا يعيش لما فوق 60 سنة، وفي كل عام نمر بالعديد من المواقف والأحداث والمشاعر والأماكن التي رسخت في أذهاننا.. فكم من البشر الذين التقيناهم؟ وكم من الأصوات التي ترددت على مسامعنا؟ وكل هذا يظل حبيس الذاكرة، وتعيده لنا حواضرنا في لحظات ما، ومواقف معينة، قد يكون عقلنا اللاواعي ساعد في عملية تشكيلها بطريقة مُغايرة وربما ليست صحيحة ومتداخلة، لكن المؤكد والواضح أنَّ الـ"ديجا فو" ستظل تلاحقنا ما دمنا نفكر ونتخيل ونعيش اللحظات.