القرية أنموذج للإدارة والغذاء

علي حمد عبدالله المسلمي

 

ورد لفظها في القرآن الكريم في ستة وخمسين موضعاً، ولفظ"قرى" في المعاجم " جمع واجتماع"، ومن ذلك "القرية" سميت لاجتماع الناس فيها قال تعالى "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ".

والقرية مكان للسكنى،  ومَرّبَى الطفولة وذكريات الكهولة، وفيها تطمئن النفس، وتنعم بالظلال الوارفة. قال تعالى " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ".

فالقرية، نعمها كثيرة، وخيراتها وفيرة، وكم من قرية في بلادنا تزخر بالنعم، وتعد نموذجاً للتصنيع الغذائي فيما مضى، وكانت تحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والكساء بما حباها الله من جنات النخيل، ومزروعات وأفلاج رقراقة عذب ماؤها تسر الناظرين، وآبار مائها سلسبيل، وحيوانات تضفي البهجة والسرور على المفكرين" وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ"، وفيها منافع لهم، ومن لبنها ومشتقاته ولحمها وأوبارها وجلودها ومن جلودها نصنع"السّعُون"وغيرها.

والقرية، كانت بمثابة خلية نحل، فالمزارع، يحرث الأرض، ويسقي الزرع، ويروي النخل الباسقات ذات الطلع النضيد؛ ليستخرج منها دبساً مصفى ليأكل منها القانع والمعتر، ويستفيد من ليفها لصنع الحبال، وجذوعها في تسقيف البيوت ومن سعفها نصنع العديد من السعفيات التي تستخدم في الزراعة مثل القفير والخصف، والنظافة مثل "المُجَمْعَةَ" التي تستخدم في النظافة.

ويحصد الحبُّ؛ ليصب في فرن الخبز، لتعده أنامل ناعمة كالة من عمل يدها لتسد به رمق الجائعين، والنّساج ينسج الخيوط في حلة قشيبة تسرالناظرين، والمرأة تخيط الملابس المطرزة بالألوان الزاهية لبنات جنسها زينة  لهن وستر،والحدّاد يَعُدُ العُدّةَ للمزارع من"خصينٍ وسكين ومجاز وهيب" والبناء، يبني بالطين والماء؛ لإعداد الطوب لتشييد البيوت والقلاع والأسوار، وصاحب الفخار يصنع الفخاريات؛ لتبدو بهية أنيقة مثل" الحُبِ والخرسِ والجحلة" والصُّفار يُصْفِر النُحاس، ويعد المِحْمَاس للقهوة ليحمسها المقهوي، لتصب عذبة ذلالة في فم الضيف، والطاهي في أوقات الأتراح والأفراح يعد وجبة شهية تفرح لها النفس، وتلذ لها الأعين،وهناك الحلاو الذي يصنع الحلوى؛ لتقدم في أوقات الأعياد والأعراس، ومعلم القرآن والإمام،  ومغسل الموتى وحفار القبور كل يطلب الأجر من الله، وهناك شيخ يدير الدفة؛ ليبحر بهم بر الأمان.

وهناك مواسم يستبشر بها الناس في قريتهم، ولهم فيها طقوسهم كأيام الأعياد، مثل: الهبطات،وهي ملاذ للفقير؛ لتسويق منتجاته المختلفة، وفرحة للطفل لاقتناء الألعاب، وروضة للغني ليقطف منها ما لذّ وطاب، وموسم آخر لجني ثمار النخيل كالتبسيل، وجداد الفرض يعمل فيه الصغار مع الكبار مع مزجه بألحان شعبية وتراثية تشدو له الآذان، وتطرب له الأسماع.

ويوجد بها السوق، حيث تُصب منتجاتها في دكاكين طينية يؤمها القاصي والداني،  يديرها الآباء والأبناء على السواء، في عرض بسيط مليء بالخضروات والفواكه مثل: الرطب بأنواعه والجح والمانجو والفيفاي والتين والموز ودكاكين مختصة بالبقوليات والمكسرات،  وهناك عرصة لبيع السمك، يجلب من الساحل لينادي به الدلال في جو بهيج هادئ، والدجاج المحلي واللحم الطازج، ومكان لعرض أخشاب السمر في أوقات الأعياد وأيضاً يوجد بها مصانع لصناعة الحلوى العمانية المزعفرة،  والقشاط بطعمه الطيب المذاق، وهناك إدارة  للسوق تديره جماعة ممن ارتضاهم أهلها.

هكذا تتكامل القرية، وكما يقول ابن خلدون : "الإنسان مدني بطبعه". ولعلنا نستفيد من الماضي في صنع الحاضر؛لنأكل مما ننتج، ونلبس مما نخيط بأيدينا حتى لا ينطبق علينا قول المفكر الراحل جبران خليل جبران : "ويلٌ لأمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تخيط، وتشرب مما لا تعصر".

 

تعليق عبر الفيس بوك