"لست مجرد رقم"

 

وداد الإسطنبولي

كلُّ ركن له رائحة خاصة، فما أجمل رائحة ذاك الركن، وما أجمل ما يحيط به، وما ينبع منه وما يصب فيه. كانت تُحب أن تجلس في الركن الأوسط من منزلنا، كانت عظيمة في فكرها، قوية في قرارها، حنونة في عطائها، رسائلها تبث في أروحنا الأمل والتجديد، لأنها ليست رسائل فارغة وإنما غنية ومليئة بالتجارب.

وسُبحان الله!  من قضائه وقدره في خلقه، لم يهبها من النسل شيئًا وأخذ منها هذه النعمة، وأبدلها بحب غامر وعطاء فائض، فإذن المسألة هنا ليست عمليه مخاض لأشعر بذلك الحب من أثر تلك الولادة، وإنما صفة يبثها الله في خلقه لمن أحب.

هذه "خالتي" أخت (شقيقة) أمي، امرأة استثنائية بجد وحق، عاشت عمرا قصيرا متوسطا نسبيا لكنه عريض، أي مليء بالتجارب والأحداث والصراع والنجاح، رحلة فيها محطات واسعة وشاسعة، خاضتها في درب الدنيا.

نُحب قدومها الذي يحف مجلسها السكينة والإنصات، بهجة حضورها، طلتها المليئة بالابتسامة، حديثها العذب.. تتملك جلستها أرواحنا وقلوبنا، لأنَّ حديثها يعلمنا كيف نحب، وكيف نتعامل مع الآخرين، وكيف نكتم في البطون، فهي لم تخلق للأكل فقط، والحياة كالدكان خُذي منه ما يفيدك وينفعك، هكذا كان صدى كلامها ونصائحها، ويتردد في آذاننا، علَّمتنا الأصالة وغمرتنا بالأهداف الجميلة.

لها فصاحة وبلاغة، وحديث الألغاز الذي كان ديدنها في لغة التعامل مع الآخر، كنا لا نفهمه أحيانا، ولا نعلم إلى ماذا ترمي مرات كثيرة. لم تكن دكتورة أو معلمة، أو أي شيء آخر، لكي تكون بليغة ومدركة للحياة، لكنها أم وربة بيت أخذت من  الحياه مداركها، وأعطتها لنا ولغيرنا ممن تربوا على يديها، فخرجت بنتاج جم عظيم.

تركت أثرا جميلا وتأثيرا أجمل على الآخرين. عاشت ولم تكن مجرد رقم بالنسبة لي نتيجته صفر، وإنما كانت رقما له وزن، ليس تاريخ عمرها رقما مكتوبا في شهادة ميلاد، وإنما رقم صنعت منه مكانة وحكاية. هناك أناس عاشوا عمرا ولكن تركوا لنا ذكريات ذهبت هباء بعد رحيلهم. حتمًا لم تكن هي منهم؛ لأنها كما أسلفتُ لم تكن مجرد رقم.

"خالتي".. امرأة عزيزة وغزيرة، لها نظرة ثاقبة، ومسيرتها تُرهبني، تقلق سكينتي بالأفكار في أن لا أكون مجرد رقم، تتسارع الأحداث من حولي، ويسحب البساط من تحتي قبل أن أترك أثرا جميلا، وأن أعمل كخالتي أعمالا ألقاها غدا.

تعليق عبر الفيس بوك