هذه المرة البدر يختلف

منال السيد حسن

في هذه الليلة تحديدا، قرَّرتُ مجددا أن أكتب لك، وأنا التي كنت أخشى أن أكتب مرة ثانية يوم اكتمالك بدرًا في سمائك!!

أشهر قليلة مرت؛ حاولت أن أكون فيها "أنا" مع الجميع -كعادتي في التظاهر بذلك- أواسي الجميع ليضحك الجميع، أُشعرهم بالأمان والدفء، أكون بجانبهم وقتما أرادوا ذلك، سمعتُ منهم كثيرا عن كل المواقف البشعة التي يمر بها كل منهم، ما اكتشفته هو عامل مشترك بين الجميع.. ألا وهو الخيانة!!

خيانة صديق/ة.. حبيب/ة.. أب.. أم.. زميل/ة.. رب/ة  العمل.

الجميع يرى أثر ذلك على روحه ونفسه بالطريقة التي تؤلمه. الألم يختلف في شعوره بين شخص وآخر، والغريب أنَّ الجميع كانوا يتألمون الألم الأكبر للخيانة في حد ذاتها وأسبابها، كل الذين قالوا سنفقد الثقة عادوا ووثقوا، وبقي شيء وحيد لا يزال له الأثر الكامل ألا وهو مرارة الشعور.

تلك المرارة التي يتوجب العيش معها كما يعرفك الجميع.

الخيانة من وجهة نظري ليست في الأشياء التي يُمكن أن تُعوض، أو التي مثلا يمكننا إيجاد بديل يقوم بعد عدة محاولات منه بتعويضنا عن تلك الخسارات. الحقيقة المؤلمة والخاسر الأكبر أن تفقد ما هو أعز من ذلك كله، أنْ تفقد ماهية الشعور نفسه بأشياء ما مجددا، كأنْ تفقد موضع أمانك وثقتك الوحيدين. شعور ما؛ ظللت تبحث عنه سنوات وسنوات بعد محاولات فاشلة لذلك حتى تلتقيه، تصل لأقصى ذروة من الثقة المطلقة بأحدهم، ثقة الشعور في حد ذاته، أن يطوقك أحدهم بشعور الإيمان به، به وحده، وتصحو ذات يوم بلا أية مقدمات أو دوافع لذلك؛ على قذارة تتمثل في قدرة شخص ما على التمثيل وبراعته في ذلك، مرض عضال يتفشى به، يصبه صبا في كل من حوله.

"ثمة أشياء نلاقيها على الجانب الآخر للحياة.. الجانب الذي كنا نصبو لأن نصل إليه منذ طفولتنا البريئة.. ثمة كذبات كبيرة تحلق هناك!! تتكسر معها أجنحةُ الفراشات.. من اضطرنا للعيش مع هذه السخافات؟! ثمة أشياء لا تمل من طرح الأسئلة ذاتها كما لو أنها تبحث عن الكمال"!!

"تطاردنا دائما مخاوفنا من تلك الأشياء.. كل محاولات التماسك الفاشلة من تجاوزها، مؤلمة بقدر محاولات المطاردة للتمسك بها، ننظر للأمور من زاوية مشتعلة، ولا نتفهم معنى أنه بالكاد نقاوم النظر إليها، نصادف الوجه الآخر لنا، ونواصل جمع شتاتنا لنحافظ على ما تبقى منا.

أي تفاؤل وصبر قادران على نزع أوجاعنا من جذورها؟! هذه الفكرة في حد ذاتها مرهقة، لا شيء يمكنه أن يمحو هذا الألم لمجرد امتلاكنا لأدوات طلاء مختلفة ومميزة!!

تلك الأكذوبة التي نتعايش معها، بينما نصرخ من الداخل، مخيفة!! لأي حدٍّ يُمكننا العيش في هذا المستنقع؟!

كيف يمكننا تجاوز الإجابة عن سؤال سخيف لأحدهم على شاكلة: "وماذا بعد"؟! دون أن يدري أننا لا نملك إجابة!!

كيف يُمكننا تصنُّع ابتسامة زائفة في موقف ما حين تخشى التقليل من عزة نفسك؟! أليس من باب أولى تصويب مسدس في وجه معدومي الإنسانية؟!!!

ينعتني الجميع بأنني عاطفية أكثر من اللازم.. وأن هذا القبح من حولي لا تجوز معه عاطفتي، في الحقيقة أكتشف معهم أن هذه الصفة اتهام سافر وليس لديهم أي نية للتراجع عنه!! مما أخشى على إنسانيتنا معه انعدامها، أشياء صغيرة تُميتنا!!

في الصف الثالث الإعدادي، قصَّ عليَّ مدرس العلوم حكمة جميلة مفادها: "عندما وزع الإسكندر الأكبر جميع ثرواته على قادته وجنوده، سأله بعض الناس: بماذا احتفظت لنفسك؟ فقال: احتفظت لنفسي بالأمل!!

كنت أعيش على هذا الحكمة سنوات طويلة، وكلما مر بي العمر ومررت به، أكتشف أن ثمة عوالم أخرى تفرض ذروتها وازدحامها كأنما يزيلون كل آمال -الإسكندر الأكبر- ليبدو كل شيء وكأنه عالق في ليل وظلام دائمين!!

الانتقال لعالم جديد لا يعني معه نهاية مرحلةٍ ما من حياتك؛ قديما قالوا إن الماضي هو حجر الأساس للتخطي والتجاوز والعبور لبناء حاضر جميل والتمتع بنظرة مستقبلية مختلفة، والحقيقة أننا نأتي لهذا العالم ونجد أن هذا ليس بالسهولةِ أبدا، نجد أنفسنا نحدِّق للأعلى وكل ما نطلبه بيتا نشعر فيه أنه بيتنا.

وقفتُ عند النافذة التي اعتدت أن ألتقط أنفاسي أمامها.. وتساءلت بيني وبين نفسي: هذا الكون الذي نتنفس فيه سويا، هل منحنا غاياتنا؟!! واستجوبت الظلام الذي عشَّش في صدري دون أن يقرر موعدا للهجرة؛ لم يلبث إلا أن انفجر في عيني شلالٌ من دمعٍ أبى ألا ينحدر.. حدقت كثيرا في سمائنا التي ملتها السحب.. وكساها الغيم والضباب، هذا لا شيء، أوهمونا بأنَّ فجرا سيأتي ويحلق.. أسخر من الجميع حين يملأ عقولهم وهمٌ يتمكن منهم هكذا، سمة زلازل وبراكين وعواصف، وأبرياء يقتلون في تأملاتكم اللعينة تلك، كل ما قدمناه على مائدة الحب بطيب خاطر، كل ما طوعناه منا تضحية لا استجداءً، علينا إدراك أنَّ ثمة أشياء سخيفة تملأ الأشواك على جانبي الطريق، وتغذي القصص المؤلمة في حكايات المساء، وتشعل حواديت أشخاص مملة يظنون أنفسهم أنهم على قدر من الفكاهة وأحيانا الحكمة!!

نحن لسنا على قيد الحرية كما نعتقد، الحرية أن نخلق من كل هذا الهُراء فضاءً نحلق فيه سويا دون أن نأبه بانفجارات ملايين المجموعات الشمسية حولنا، دون أن نأبه لأنَّ ثمة مسافات لعينة تفصلنا، وأن نؤمن بأنه طالما هناك كون واحد يجمع بين أنفاسنا، فثمة أوقات تجمعنا وإن كن لن نلتقي.

كل هذا يتبعثر حين أغفو قليلا، وكل ما أرجوه يدا تلفني وتمسك بي بقوة، يدا لا تفلتني وإن أفلتني الجميع.. أن يقول لي أحدهم "أنا جانبك، وإن لم يكن موجودا".. أريدُ قليلا من الإنسانية.

تعليق عبر الفيس بوك