أوهام المُتطرفين

بدر بن خميس الظفري

في الجامعة، وفي إحدى محاضرات مساق "تحليل النص"، طُلب من كل واحد منا أن نكتب على السبورة مثالا على نص أثر في نفسه أو نفسها كثيرا مع ذكر السبب، فكانت أول عبارة وردت في ذهني مقولةً قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد -رحمه الله- في خطابه خلال الاحتفال بالعيد الوطني الرابع والعشرين المجيد في مدينة نزوى؛ وهي: "إنَّ التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبدا أن تُلقى فيها بذور الفرقة والشقاق".

إنَّ هذا النصَّ عبقري في مبناه، شامل في معناه، له إيقاع موسيقي مؤثر، تحس عندما تقرؤه أنه خرج من قلب رجل عظيم حكيم، يعرف معرفة العارف الخبير انتقاء الكلمات وترتيبها، فهو ليس اختصارا مبهما لا يفهمه المتلقي، وليس إطنابا مملا يستثقله القارئ، بل بليغ لا يُمل، وكلام دل وإن قل. فقد ابتدأ السلطان الراحل بذكر التطرُّف، وهو الحياد عن الاعتدال في السلوك الشائع في مكان وزمان معين، ثم عرج إلى التعصب، وهو شعور يتولد لدى الفرد بأن ما يعتقده هو الحقيقةُ المطلقةُ، وما عند غيره هو خطأُ محض، ثم ذكر التحزب وهو تجمعُ أفرادٍ داخل الدولة وخارج نطاق سياساتها العامة ليشكلوا حزباً له أفكار واتجاهات مشتركة تعارضُ توجهات الدولة في معظم الأحيان. وقد وصف السلطان الراحل هذه المفاهيم كلها بوصف معبر ودقيق، حيث شبهها جميعا -مهما كانت مسمياتها أوأشكالها ودوافعها- بالزرع، والأصل في الزرع أن يكون طيبا، ولكن في هذه الحالة هي نباتات سامة في تأثيرها، كريهة في رائحتها، عفنة في توجهها، ولكي تنمو هذه النباتات فلا بد أن تتوافر لها الأرض الخصبة لذلك وهي البيئة والمجتمع، ولكن هيهات هيهات، فأرض عُمان التي تعودت على الطيب والنقاء لن تجد هذه النباتات السامة مكانا لها لتترعرع فيه. بعدها ذكر السلطان قابوس -رحمه الله- أنَّ هناك من يريد زرع الفتنة بين أبناء الشعب العماني، ويريد أن يفرِّق بينهم ويشق صفوفهم، ولكن لم ولن يفلحوا في ذلك.

أذكر أنني في العام 1994، كنت أنا وعائلتي مُتسمرين أمام شاشة تليفزيون سلطنة عُمان ننتظر بكل شغف الطلة البهية للسلطان قابوس -رحمه الله- وخطابه السامي الذي تعوَّدنا أن نسمعه في كل عيد وطني. وعلى غير عادته، تأخر حضور السلطان للحفل الضخم الذي أقيم آنذاك بمناسبة عام التراث، والذي ما زالت ذكرياته عالقة في أذهان الكثير من العمانيين، وكانت طريقة إلقاء الخطاب -إضافة إلى كلماته القوية- تحمل مشاعر الغضب والحزم، ولا أظن أن إطلاق مثل هذه العبارات بذلك الأسلوب القوي من قبل السلطان الراحل جاء من فراغ، فلا بد أن يكون هناك خطب ما دعاه -رحمه الله- إلى ذلك.

إنَّ مُحاولة المتطرفين زرع بذور الشقاق بين أطياف المجتمع العماني لم تتوقف ولن تتوقف، وبين الفينة والأخرى، يتناقل الناس تمكن الجهات الأمنية في السلطنة من إلقاء القبض على فرد أو مجموعة من المتطرفين والمتعصبين والجواسيس، يعملون سرًّا من أجل نشر فكرهم المتشدد بين أبناء المجتمع العماني، بتوزيع المنشورات تارة، وتأسيس جماعات ظاهرها الدعوة والإرشاد تارة أخرى، وبغيرها من الأساليب المعروفة. وسواء كان هذا التعصب لفكرةٍ فلسفية فارغة، أو عرق يظن صاحبه أنه متفوق على غيره، أو قبيلة يرى المنتسب إليها أنها سيدة الكون، أو مذهب ديني يعتقدُ مُعتنقُهُ أن الجنة لا يدخلها إلا من اتبع نهجه. وسواء أكان هذا الفكر تحت غطاء محاربة الفساد الأخلاقي، أم إصلاح المجتمع المنحرف، أم إخراج الناس من ظلمات البدع إلى أنوارهم المزعومة، ومن باطل غيرهم المحض إلى حقهم المطلق، وسواء كان معتنقو هذا الفكر موالين لجهات خارجية ويتلقون الدعم المادي والمعنوي منها أو يتصرفون من تلقاء أنفسهم، فإن جميع هذه التصرفات والسلوكيات مرفوضة شرعا، ومجرمة قانونا.

إنَّ الاختلاف فِطرة إنسانية، ونصوص القرآن الكريم كثيرا ما تنوه إلى تلك الفطرة، فها هو الله تعالى في سورة الحجرات بعدما حذر من السخرية والتجسس والغيبة وسوء الظن، ينادي البشر نداء لطيفا يُحننهم ويُحببهم إلى بعضهم البعض: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"؛ أي إنَّ الهدف من هذا التنوع هو التعارف والتآلف وليس التنافر والتخالف، بل إنَّ الله تعالى ذهب إلى أبعد من ذلك حين يُقررُ أن الاختلاف آية من الآيات مثل خلق الأرض والسماوات: "ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكُم وألوانكُم"، ولكن هناك فئة تأبى إلا أن تخالف هذه الفطرة، لتفرض على الناس قسرا ما يعتقدونه، رافضين حكم الله وحكمته في التنوع والاختلاف، مقدسين رجالاً أقوالُهُم لم تعد صالحة لهذا العصر، ونظريات وفتاوى عفت عليها سنون الدهر.

وفي وَصْف هؤلاء، أقتبسُ للقارئ الكريم من كتاب الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية لمؤلفه الشيخ محمد الغزالي، حيث يقول رحمه الله: "إن حُسن النية لا يشفع في الاستجابة لأصحاب الأهواء". وقد نعى القرآن على قوم أغلقوا عقولهم على رأي فلم يفهموا سواه ولم يفكروا فيما عداه، زاعمين أن الخير فيه وحده، فقال فيهم: "قُل هل نُنبئُكُم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيُهُم في الحياة الدُنيا وهُم يحسبُون أنهُم يُحسنُون صُنعًا".

ويقول الشيخ الغزالي: "يجب ألا نأخذ رأينا كقضية مُسلمة، ولا أن نقبل كلام غيرنا دون مناقشة وتدبر، بل يجب أن نبحث عن الحق، ونجتهد في الوصول إليه، فإذا عرفناه عرفنا الرجال على ضوئه، وصادقناهم وخاصمناهم على أساسه. إن المسلم الصادق هو الذي يعرف الرجال بالحق. أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون في أي كلام يلقى إليهم، لأنه صادر عن فلان أو فلان، فهم أبعد الناس من فهم الإسلام، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيرا أو يحرز له نصرا".

ثم يُنبهُ الغزالي أصحاب الأدمغة المغسولة قائلا: "وافقه أيها المسلم كلمة الإمام مالك بن أنس: كل امرئ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم)".

وكلام الشيخ الغزالي فيه توبيخ للجماهير التي تتعاطف مع شخص معين دون معرفة نواياه وأفعاله، وتعطل عقولها عن معرفة حقيقته الباطنة، وتكتفي بظاهره من الكلام الطيب، وتجري وراء عواطفها ومشاعرها، حتى وإن اتضح لها ما كان يخبئه من خطط خبيثة تدمر الوطن وتضعفه، وتجعله تحت وصاية غيره. وقد حذرنا الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد من أمثال هؤلاء حين قال: "إن الأفاعي وإن لانت ملامسها... عند التقلب في أنيابها العطبُ".

لقد نصَّ قانون الجزاء العماني في مادته (130) مكرر على أنه "يعاقب بالسجن المؤقت مدة لا تزيد على عشر سنوات كل من روج ما يثير النعرات الدينية أو المذهبية أو حرض عليها أو أثار شعور الكراهية أو البغضاء بين سكان البلاد"، والنعرات هي النزعات العصبية التي تؤدي إلى الفتنة وعلى رأسها تكفير المسلمين. كما نصت المادة (147) من القانون ذاته على أنه "يعاقب بالسجن من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة كل شخص عمانيا كان أم غير عماني تجسس أيام السلم على الدولة العمانية لصالح دولة أجنبية. وإذا حصل التجسس زمن الحرب أو لصالح دولة معادية فيعاقب الفاعل بالإعدام"، ومثل هذه النصوص معمول بها في كثير من الدول المدنية في العالم التي تغلبُ المصلحة العليا للوطن على المصلحة الأيديولوجية الضيقة، وتعلي قيمة المواطنة على قيمة المذهب والعرق والنسب.

... إنَّ الوهم الذي يعيشه بعض المتطرفين حول السيطرة على المشهد العام في السلطنة، ونشر ثقافة الفوضى، وتقويض قيم التسامح والانسجام والانصهار بين مكونات الشعب العماني، هو مجرد أحلام نوم أو يقظة، أو كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فالأجهزة الأمنية الساهرة على سلامة هذا الوطن لن تتوانى في كشف نواياهم الخبيثة ومخططاتهم ودسائسهم الخفية، وتقديمهم للعدالة، وإن تظاهروا بحبهم للوطن وولائهم للسلطان ودعوتهم لطاعة ولي الأمر، وستصطدم مساعيهم بقوة القيادة السياسية ووسطية المؤسسة الدينية، وتماسك أفراد المجتمع وتعاضد عناصره، ووعي رجاله ونسائه، ليصدق فيهم قول الأعشى: "كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها.. فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ".

تعليق عبر الفيس بوك