من مدرسة الحياة

وليد الزيدي

موقف آلمني كثيرًا هذه الأيام مع بائع الغاز، وهو ولد شاب ضعيف الجسد، وفي عينيه نوع من المعاناة؛ حيث قام بحمل أسطوانة الغاز من سيارتي ليستبدلها بأسطوانة أخرى، وهو يحملها ليضعها على سيارتي رأيت من خلال المرآة الأمامية في وجهه الجهد الكبير أثناء حمل تلك الأسطوانة، ثم ندمت على أنني لم أنزل لمساعدته في حملها، مع العلم أنَّني في البيت أطلب من عاملة المنزل مساعدتي في وضعها في مكانها المناسب؛ بسبب وزنها الثقيل.

الفكرة التي أريد أن أوصلها إليكم أيها الأعزاء من هذا الموقف: أن نحمد الله على النعم العديدة التي أنعمها علينا، ونشكره، ونسأله أن يُديم علينا تلك النعم، وأن نتخيَّل ونستشعر حال هذا الشاب فنقدم له الكلمة الطيبة أولًا ثم نعطيه من مال الله الذي أعطانا إياه بقدر المستطاع وبشكل غير مباشر، كأن تقول له: باقي المبلغ لك يا ولدي أو يا أخوي، وأن نقبل بشكل متعمد على هذا الشاب أو ما يشبه موقفه ونشتري منه من باب التشجيع والوقوف معه، خصوصًا في ظل وجود الجائحة وما ترتب عليها من صعوبة الحياة عند البعض، وعلينا أن نتعمَّد تقديم مبلغ أكبر من البضاعة المشتراة؛ حتى نقول له: الباقي حقك يا أخوي، فتشعر أنت وهو بالفرح؛ وبذلك تكون أسعدت نفسك أولًا ومن حولك ثانيًا، ونلت الأجر في الدنيا والآخرة بإذن الله.

علينا أن نتذكر كم المبالغ التي نصرفها في وجبة غداء أو عشاء في مطعم فاخر؟ أو كم المبالغ التي نصرفها على حذاء أو ملبس أو سياحة؟ حتى نقلل قيمة تلك المبالغ في أنفسنا عندما نقدمها في مثل هذه المواقف.

كم جميل ذلك النوع من العطاء وإن قل، معنويا كان أو ماديا؟

موقف آخر حينما اتَّصلت بأحد المطاعم وطلبت منه وجبة عشاء، وكنت منزعجًا حينها، فرد عليّ أحدهم ورحب بي، وقال لي: ما طلبك؟ فأخبرته في المرة الأولى، ثم قال أنت تريد كذا وكذا؟ فقلت له نعم. وظل يقول لي: أنت تريد كذا وكذا؟ فنهرته بصوت عالٍ، وقلت له أعطني شخصا آخر غيرك. لم يسبق وحصل لي مثل هذا من قبل. فما كان منه إلا أن قال: لا تزعل يا أخوي، نحن مضغوطين اليوم وطلبك سيصلك. هنا.. بدأت ألقي باللوم على نفسي لبرهة من الزمن، ثم اتصلت بالمطعم مرة أخرى فرد عليّ شخص آخر، فقلت له أني قد اتصلت عليكم بالخطأ.

إذ إنَّني لا أعرف اسم الشخص الأول، فقط أستطيع تمييز صوته. ثم ركبت سيارتي متوجهًا إلى المسجد، فاتصلت للمرة الثالثة وإذا بنفس الصوت الذي أبحث عنه، فحمدت الله في نفسي أولًا، ثم اعتذرت منه لنهري به ورفع صوتي عليه، وكان قد عرفني وتقبَّل اعتذاري؛ حينها شعرت بسعادة في نفسي.

الدروس التي يمكن الاستفادة منها من هذا الموقف أيها الأحبة: لا تُحاول أن تتحدث مع أي شخص أو تلتقِي به إنْ كنت مُنزعجًا من أمر ما، وعليك أن تتحلى بالصبر وتجد لأخيك عذرًا وتُحسِن الظن فيه، فتقول في نفسك ربما هو موظف جديد، أو لديه ظروف تجعله غير مركّز معي أو...، أو... ؛ لأن الأصل في المؤمن إحسان الظن بأخيه.

وفي حالة الوقوع في الخطأ أو الزلل، سارع إلى الاعتذار مهما كان الشخص الآخر (صغيرا أو كبيرا، مواطنا أو أجنبيا، رجلا أو امرأة)، فإن ذلك راحة وسعادة لك وله. وفي حالة وقوع سوء فهم بين طرفين، من الجيد أن يبقى أحدهما هادئًا، أو أن ينسحب من الموقف، ثم يحتسب الأجر عند الله.

فالرفق الرفق بمن هو أضعف أو أقل منا في العلم أو المكانة أو المنصب أو المال أو الصحة. وتذكر دائمًا أنك اليوم كنت في موقف القوي بفضل من الله وحده، وأنه قادر على أن يغيّر حالك من القوة إلى الضعف في لمحة بصر وأقل. كل ذلك الحديث الجميل مع نفسك سيدفعك إلى الاعتذار حتمًا. والاعتذار وبشكل سريع عند الخطأ، علاج جيد للنفس البشرية، بدلًا من الاستمرار في معاتبة الذات والتفكير وضياع الكثير من وقتك وصحتك النفسية.

موقف ثالث، وبينما كُنت في إحدى المؤسسات لإنهاء معاملة ما، فأعجبني حرص ذلك الموظف؛ حيث كان بينا حاجزٌ زجاجي، وكنت قد سبق لي إجراء مثل هذه المعاملة وأعلم بخطواتها وضرورة الحرص على إنجازها. ولكن الذي شدني هو موقف ذلك الرجل الحريص على ألا أقع في خطأ، فقام مرتين من كرسيه وهو يؤكد عليَّ خطواتها. الفكرة أني شعرت بالسعادة حينها أنَّ هنالك أناسًا في وجوههم الخير، فينعكس ذلك على تعاملهم وخدمتهم للناس دون أن ينتظروا مقابل، كما أنَّني أظهرت أنني لا أعلم بإجراءات تلك المعاملة؛ حتى يتسنى له الشعور بالسعادة وهو يسرد لي خطواتها. فتمنيت حينها أني صاحب قرار فأكافئه صنيع حرصه على التعامل مع الناس، وإنهاء معاملاتهم بكل يُسر، فما كان مني إلا أن ابتسمت في وجهه وأخبرته بأنَّني سعيد بذلك، فيشعر هو الآخر أني قد خرجت راضيًا وسعيدًا من مؤسسته؛ فيقبل بشكل أكبر في الإنجاز في قادم الوقت.

إنَّها مواقف من مدرسة الحياة، حصلت لي فكان لها وقع في نفسي، ثم عبرت عنها لكم.

تعليق عبر الفيس بوك