الأكسجين يصل الغيضة

على بن سالم كفيتان

لطالما تنادى أهل الخير في ظفار لمد يد العون والمساعدة لمن تقطَّعت بهم السبل؛ فهذه الأرض ما زالت منجما لإنسانية لا تنضب، وهِمم لا يمكن بلوغها، ورحم الله السلطان قابوس عندما شهد لهم يوما عندما اعترضه رجل، وذكر له أنه تزوج ويرغب في المساعدة؛ فقال له جلالته -رحمه الله- مُدَاعِبا: انصب خيمة عُرسك في ظفار؛ فالعرف هنا لا يزال يقوم على مبادئ راسخة من التضامن الاجتماعي الفريد من نوعه، فمن تزوج نصب خيمته وفتح دفتره، ومن توفاه الله يهب الأخيار لتقديم يد العون والعطاء لأسرته، فترتسم صورة الرحمة والإنسانية في أبهى حللها؛ فالعطاء مغرُوس في وجدان الناس هنا، ومن عجائب حرصهم على واجب العطاء أن تجد الأموال تحوَّل في ظل "كورونا" إلى حسابات العرسان الجدد عبر التطبيقات الإلكترونية؛ فأيُّ مجتمع هذا؟! وأي تكافل يمكن أن نَصِف به هؤلاء الناس الذين تساموا فوق كل الاعتبارات؟! إنها ظفار.. الكبد الرطبة.

ينشغل الناس هنا بما يحدث في اليمن ولا يكترثون لضجيج السياسة؛ بل بالجانب الإنساني، ففريق الأيادي البيضاء يعمل دون كلل أو ملل من أجل معالجة المرضى القادمين من اليمن السعيد؛ حيث يقدِّم الفريق خدماته الصحية عبر تمويل إجراء العمليات الجراحية داخل السلطنة أو خارجها، ويقدم تسهيلات لسكن المرافقين والإعاشة وقضاء فترة النقاهة بعد الخروج من المستشفيات وحتى عودة المريض إلى المنفذ الحدودي ترافقه الأيادي البيضاء المؤمنة بالعطاء والعمل في جُنح الظلام، بعيدا عن العدسات وشاشات محطات الإعلام، فالعمل خالص لله، ولا يبغى من أنفق لوجه الله أن ينقص من أجره شيئا. وقد شاهدت بنفسي رجالا ونساءً يتبنون حالات كثيرة ويتولونها بالعلاج والرعاية بصمتِ المؤمنين المخبتين لله؛ فنحمده جل وعلا أن ما زال بيننا مثل هؤلاء. وكم يؤسفني أن أرى من يعرقل هذا الجهد الإنساني في بعض الأحيان؛ فالفريق ما زال ينتظر الإذن بفتح حسابات عدة في مختلف البنوك لفتح المزيد من نوافذ التمويل، فهو محصور اليوم بحساب واحد فقط، ولم يُسمح له بنشر صناديق في الأماكن العامة والمراكز التجارية. وهنا نُناشد الجمعية العمانية للأعمال الخيرية، وسعادة الشيخ نائب محافظ ظفار الذي يترأس العمل الإنساني في ظفار، منح المزيد من المساحة لهذا العمل الإنساني العظيم، ولا شك لدينا في الاستجابة بإذن الله تعالى.

في أحد الايام القائظة، وجدتُ شيخًا على الطريق، فوقفت وأخذته معي وسألته عن جهته، فقال لديَّ مبلغ أريد أن أتبرع به لليمن السعيد، وهنا ساد صمت بيننا وعلت العبرات؛ فقال لي: يا بني، أنتم صغار لا تعلمون ما قدمه اليمن لنا أيام الضيق والفقر، فعندما أغلقت كل الأبواب أمامنا لم نجد بابا فُتح لنا إلا اليمن الذي استقبلنا، وعلّم أبناءنا، وتشاركنا معهم لقمة العيش، وهم سُعداء بنا، لم نحس يوما ونحن في حوف أو الغيضة أننا مغتربون؛ بل كانوا هم الأهل والولد، فلملموا الشتات، ولطالما تعالجنا في مستشفياتهم، ودخلنا مدارسهم دون أن ندفع فِلسا واحدا، واليوم قُمت من فراشي لرد بعض الجميل لأهلي في اليمن السعيد".. أنزلته في مقر الجمعية العمانية للأعمال الخيرية بظفار، بعدما قدم لي هذا الرجل المسن درسا عميقا في الإنسانية ورد الجميل.

قبل أيام، رأيتُ إعلانًا للإعلامي الرائع محمد السليمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن حاجة مستشفى الغيضة المركزي في محافظة المهرة الماسة لأسطوانات الأكسجين، في ظل تفاقم جائحة كورونا، وتراجع الوضع الاقتصادي والحرب والحصار المحتدم هناك، وبعد ساعات يعلن أن الكمية المطلوبة للمرحلة الأولى تم توفيرها من أصحاب الخير والعطاء، وأن القافلة المحملة بالأكسحين دخلت الأراضي اليمنية؛ فلا يسمح لنا الزمن أن يشعر أبناء المهرة بضيق النفس والاختناق، ونحن ما زلنا على أرض عُمان نجد العون والدعم. لذلك؛ هبَّت أيادي الخير وتنادَى الرجال والنساء، فهبوا كعادتهم فسيِّرت القوافل بعيدا عن ضجيج الإعلام وصخبه، ولا يزال جسر الخير مستمرا ما بقيت الإنسانية في الغبيراء.

وفي هذه الاثناء، تقود مسقط حوارا سياسيا هادئا ورزينا بين الفرقاء اليمنيين، بالتعاون مع المملكة العربية السعودية والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية؛ فهل تضع الحرب أوزارها؟ وهل يتمكن اليمنيون من تخطي محنتهم ولملمة جراح اليمن العظيم؟ هذا ما نتمناه ونعمل لأجله في سلطنة الخير.