الخليج وثقافة الديمقراطية (18)

 

الخطاب الديني معوقًا

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

الخطاب الديني المعاصر والمذاع عبر منابرالإعلام المختلفة غير معين لثقافة الديمقراطية، بل هو عامل معوق لها غالبًا.

لطالما شخص أهل الاختصاص وعشرات الكتاب والباحثين المهتمين بالشأن الثقافي عامة، وبالخطاب الديني خاصة، أمراض الخطاب الديني السائد، مضموناً وأسلوباً، بهدف تجديده وتطويره ليواكب التغيرات التي تمر بها المجتمعات الخليجية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لكن هذا التشخيص بقي تنظيرًا يتداوله المختصون لا تأثير له على واقع الخطاب الديني.

بيدي بحث نفيس للفقيه الدستوري الكبير الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، رحمه الله، حول الخطاب الديني المعاصر، شخَّص فيه 7 أمراض مزمنة:

1- الترهيب والتخويف لا الترغيب والتبشير.

2- التشديد على الناس وتوسيع دائرة المحرمات والواجبات وتضييق دائرة المباحات في مخالفة للقاعدة الأصولية (الأصل في الأفعال والتصرفات والأشياء الإباحة)، وفِي تناقض مع أصول الإسلام الكبرى التي بنيت على التيسير ورفع المشقة ورفع الحرج، تشهد لها نصوص عديدة منها: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".

3- التمسك بظاهر النصوص وإغفال مقاصد الشريعة وغاياتها.

4- إغفال الأولويات ومراتب الواجبات الدينية.

5- إهمال دور العقل والعلم في تكوين عقلية المسلم.

6- التعلق بالماضي والغفلة عن المتغيرات المعاصرة والتوجس من المستقبل.

6- عدم تقبل الآخر سواء المحلي أو الخارجي.

... تبدو ثقافة الديمقراطية عصية في مجتمعات يسودها مثل هذا الخطاب الذي يقوم على الترهيب والتخويف والتشديد على أتباعه، ويعمل على إقصاء الآخر المواطن وتهميشه.

ولا يمكن لقيم الديمقراطية أن تتوطن في مجتمعاتنا الخليجية وفقهاؤنا وأهل الذكر عندنا يظنون أنهم إنما يوقعون عن الله تعالى فيما يفتون ويصدرونه من آراء فقهية! هذا من جملة الأوهام الموروثة، فما كان لبشر أن يوقّع عن الله تعالى عدا رسوله عليه الصلاة والسلام فيما بلغه عن ربه، كيف وهو القائل لقائده بريدة: "إذا حاصرت قوماً وطلبوا أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله بل أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله".

علينا تصحيح هذه الأوهام بتأكيد أن أهل الفتوى والعلماء إنما يعبرون عن فهمهم هم، لا عن الله تعالى، وهي أفهام قابلة للصواب والخطأ.

متى يتطوَّر خطابنا الديني ويرتقي مستوى احتضان الإنسان؛ لأنه إنسان مكرم من لدن خالقه، بغض النظر عن دينه ومذهبه وجنسه؟

لقد نجح الآخرون في تطوير خطابهم الديني إلى مستوى رائع، تحدث عنه الباحث الكويتي المتميز الدكتور حامد الحمود في مقالةٍ رائعة قبل سنوات، بعنوان "يوم أحد في كنيسة"، قال فيه: إنه اعتاد في زيارته لمدينة صغيرة بولاية ويسكونسن الأمريكية أن يتمشى صباحاً في الحدائق المحيطة، وذات "يوم أحد" رأى مجموعات من رجال ونساء وأطفال يدخلون مبنى ضخما، هو مبنى الكنيسة، فدفعه الفضول لدخولها، وجد القس يبدأ بالصلاة ثم الأناشيد الدينية يرددها الحضور بمشاركة الموسيقى في أجواء روحانية بهيجة، ثم استمع للقس مناجيًا: "اجعلني يا إلهي قناة لتحقيق السلام.. وعندما تكون هناك كراهية مكنني من زرع المحبة، واغفر لي عندما أكون سببا في جرح الآخرين. وعندما يكون هناك شك ليكن هناك إيمان، وعندما يكون هناك يأس من الحياة ليكن هناك أمل. وعندما يكون هناك ظلام ليكن هناك نور، وعندما يكون هناك حزن حوِّله بهجة وفرحًا. اجعلني يا إلهي قناة لتحقيق السلام. وازرع محبتي في قلوب الناس لكي أحبهم من دواخل روحي".

نحن أولى بهذا الخطاب الإنساني؛ فقُرآننا مع حقوق الإنسان الضعيف والمظلوم والكسير والمهمش، ورسولنا عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة، بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، داعيا إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.

أخيرًا.. الأجدر بخطابنا الديني العناية بقضايا التضييق على الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان في مجتمعاتنا وجعلها من أولوياته.. الأولى بالخطاب الديني أن يكون نموذجاً راقياً في التسامح مع المفكرين الآخرين، وفِي تقبل الرأي الآخر، ومناصرة حريات التعبير والإعلام وحقوق المهمشين.

 

* كاتب قطري