أنيسة الهوتية
"ثقافة الوظيفة".. أي: المفهوم المركزي في الأنثروبولوجيا للوظيفة! وهي نطاق الظواهر المنتقلة في المجتمعات من خِلال التعلم الاجتماعي. وباللهجة البسيطة: تطبُّع الإنسان بما وبِمَن هم حوله تلقائيًّا، وتعوده على ذلك.
وثقافة الوظيفة تختلف مع الاختلاف البيئي والحضاري. وَفي الزمن الحالي، ثقافة المظهر تغلب على البيئات الوظيفية. نعم، المظاهر و"البرستيج" تُقنِع الأغَلب بأن وظيفة الموظف "الشيك" والموظفة "المتكشخة" هي الأفضل! وَعلى هذا المبدأ، يتطلع الأغلب إلى وظائف مُهَندَمة في المقامِ الأول، ثُم الوظائِف ذات الصيت والهَيبة تاليًا. لذلك؛ نلاحظ أن أغلب الأجيال بعد السبعينيات هجروا أعمالاً مُربحة ماديًّا لأنها ليست "شيك" مظهريًّا؛ مثل: الزراعة، الرعي، الصيد، النِجارة، الحِدادة، الخَبز وبيع المواشي...وغيرها. هذا مع توافر العمالة الوافدة غير المُكلِّفة كسبب أول لترك العمل "الأنتيك"، والسعي للوظائف "الشيك"، طبعاً مع تشجيع أولياء الأمور أبناءهم على "الأُبَّهة" تفاخراً بين بعضهم البعض!
ولَكِن، لو الجميع أصبحَوا أطباء مَن سيكون الممرض والمضمد؟! ولو الجميع أصبحوا وزراء فأين كادره العملي؟! ولو الجميع أصبحوا مُلوكاً ورؤساء دَول فمَن سيكونُ الشَعب؟! الجَميع يُريد أن يكون مقود السيارة للتوجيه، ولا أحد يريد أن يكون الإطار الذي يحمل ثقلها ويمشي بها! مع تناسيهم دور الماكينة!
ومَعَ ذلك لا نلوم الشباب، وإنْ كانوا من المناطق النائية التي تناسب طبيعة هذه الأعمال؛ لأن الأغلب يتطلع إلى حياة المدينة؛ فالمجتمع ساقهم إلى قناعة أن المدينة أجمل! وأيضاً حين تُرفض خطبة العامل والموظف البسيط؛ لأنَّ أهل الفتاة يتطلعون لها معيشةً مُريحة -وبذات الوقت يبحثون لابنهم على فتاة موظفة لتساعده في مسؤولياته وقوامتهَ!- هذا يعني أن خطبة المزارع، والصياد، والخياط، والخباز وغيره أيضاً سَتُرفض!
وَالبلاءُ الأعظم في المجتمع هُم أصحاب العقول البائسة الصغيرة، الذين يضحكون ويتنمرون ويتفاخرون على أصحاب هذه المِهن حين يرونهم في الأماكن العامة! وأتذكرُ موقفاً لشابٍ مجتهد في التسعينيات دخل إلى البنك لإيداع مبلغ كسبه من بيع مجموعة مواشي قبل رمضان، وهيئته لم تكن مناسبة لدخول البنك، لكنه لم يُرِد أنْ يرجع بالمال إلى البيت خشية ضياعه. وبينما هو جالس ينتظر دوره، كان بجانبه شابان في منتهى أناقتهما، ورائحة العطر الثمين تنبعث منهما، وبكل وقاحة قالا له: "غيِّر مكانك، قتلتنا بريحتك"، ولم يكتفيا بذلك، بل جلسا يضحكان عليه ويستهزئان به. والمُضحِك المُبكي في الأمر أن الشابين الأنيقين المُتنمرين كانا في البنك لتقديم طلب سُلفة لكل واحدٍ منهما لشراء سيارة فارهة فوق استطاعتهما المادية، أما الشاب غير المهندم فقد كان في البنك ليُودع مبلغاً يُعادل السُّلفة التي جاءَ الآخرانِ لطلبها! ولديه رصيد بنكي، ومزرعة، وبيت، وعائلة، ولا يُبذِّر المال ارضاءً للمجتمع، بل يصرفه ارضاءً لنفسه وأهله وَلِله.
ولِمَن فَهِم يوماً أنَّ الثقافة مظهرٌ أنيقٌ فهو مُخطئ، فالثقافة غذاءً روحي للارتقاء الإنساني، وثقافة الوظيفة لا يجب أن ترتكز على الشكليات و"الأُبَّهة"، فليس بالضرورة أن يكون الراعي، والصياد، والمزارع وغيرهم غير حاصلين على الشهادات العليا! فبالإمكان العمل بتلك الأعمال للترزُّق في البيئة المحيطة المتطلبة لها، مع إكمال الدراسة العليا والاحتفاظ بالشهادة.
وبما أنَّ المؤسسات الخاصة والعامة مُتخُومة بالكوادر، إذن علينا خلق وظائف جديدة، أو الرجوع إلى وظائف مهجورة، ونتمنَّى من الحكومة منح أراضٍ زراعية مع سُلفة لإدارتها، بشرط أن يكون القائم عليها عمانيًّا. وعلى نفس الإستراتيجية، منح قوارب صيد، ومكائن خياطة بدورات، ودورات حلاقة...وغيرها الكثير مِن المِهن بذات الاشتراطات، مع تشريع قوانين تُسَهِّل عَمل الكوادر الوطنية، ودَعَمُ بيع منتوجاتهم بقوانين تِجارية، ولكن مع أسعار معقولة طبعاً.