علي بن سالم كفيتان
رغم مرور عام ونيف على فراقنا لباني نهضة عُمان السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- إلا أننا ما زلنا مسكُونين بتلك الشخصية الاستثنائية، ولا شك أنَّنا لن ننساه قريباً، ولن تمحُوه الذاكرة أبدا؛ فكل ما حولنا يذكرنا به -رحمه الله.
وقد استوقفَ الكثير من المتابعين، الأسبوع الماضي، زيارة السيدة الجليلة حرم جلالة السلطان المعظم -حفظها الله ورعاها- لمركز صناعة الفخار في ولاية بهلا، ولفتتها الإنسانية العظيمة للموروث العُماني.
إلا أنَّ الحدث الأبرز الذي تناقلته الركبان على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت الصورة التي على حقيبة اليد التي كانت تحملها السيدة الجليلة؛ فقد كان محفورًا عليها صورة بيضاء ناصعة للسلطان قابوس -طيب الله ثراه- وهو يناجي إحدى خيوله في إسطبل العاديات بالسيب، هامسا لها قائلا: "مشتاقة لصلالة"؛ وكأن أيَّ مولود في هذه المدينة الحالمة يشتاق للعودة إليها. تمنيتُ -كما تمنَّى الكثير هنا في ظفار- أن تحتوى هذه الأرض ذلك الجسد الطاهر، وأن يرقد إلى جوار قصر الحصن العامر وحي الشاطئ، فتهب عليه نسمات الخريف الباردة من بحر العرب، ليستحضر طفولته الحالمة، وأمجاده الخالدة في توحيد البلاد؛ فصلالة ليست مجرد مدينة عابرة بل هي ميلاد وطن.
هذه اللفتة الإنسانية الكريمة لسيدة عُمان الأولى أعادتْ لكل عُماني الأمل بأن روح المؤسس تسكن في خلجات الأسرة العظيمة التي تحكم عُمان، رُبما الناس لم تتعوَّد من قبل على نشاطات أسرة السلطان، فالراحل -رحمه الله- كان هو الأب وهو الوطن بأكمله، واليوم بات للوطن أب آخر اصطفاه جلالته لخلافته، وأم تتجول في ربوعه لتعايش البسطاء في كل بقعة، وأبناء أوفياء يحملون همومه ويتوارثون ملكه؛ لذلك تتراقص الأقلام وتخفق القلوب مع كل إطلالة كريمة لأفراد هذه الأسرة الكريمة، فاليوم بات هناك متَّسع لبلوغ السلطان من خلال أم عُمان -حفظها الله ورعاها- ومن خلال أبنائه، فكلهم أعين لجلالته بين الناس، وفي المساء تجتمعُ الأسرة ويستمع السلطان منهم جميعا لهموم وأفراح الناس. وقد بات مُعتاداً أن تدخل السيدة الجليلة للمصنع والقرية وكل بيت في طريقها، وأن تُناغي ذلك الصبي وتلك الفتاة في حاراتنا القديمة، وتزور المستشفيات، وتقدِّم الدعم لكل مريض يلوذ بها من ألمه وتعبه على أسرَّة المرض.
هذه هي الرسالة العظيمة التي تقدمها سيدة عُمان اليوم، ونقف لها إجلالا واحتراماً في كل شبر من عُماننا الغالية، ولا شك أنَّنا بانتظار زياراتها لمضاربنا في مقشن؛ حيث كان الشيخ مسلم بن طفل ورفاقه على الثغور منذ نصف قرن، فرحل بن محيسون، وترك المكان يحكي لنا بندقيته التي لم تزل يوما عن الهدف.. سننتظرك سيدتي في الريف المخملي الجميل الذي تنتمي له أم السلطان الراحل -طيب الله ثراه- فما زالت القرى الريفية تُراهن على بقاء تراثها ونماء مواردها وكرم إنسانها الذي لم يتغير، ولا تزال بيت بن سيدوف (نزوى) في مرباط تنتظر إطلالتك الكريمة بعد أن عصفت بها عاديات الزمن.
كلُّ الحواضر العُمانية باتت على موعد معك سيدتي؛ ستحكي لك كل ما هو جميل عن السلطان قابوس -رحمه الله- وعن صراعه مع الزمن لانتشال ذلك الإنسان الذي أنهكه الوقت واقتاتت عليه الظروف القاسية، ستحكي لك القرى الكثير من الابتسامات مع قابوس الإنسان؛ فهنا يمر، وهنا يجلس، وهنا ينصب مخيمه ويتسلل في أطراف الليل وآناء النهار بعيدا عن وزرائه وحرسه ملثما، فيدخل ذلك المستشفى، وتلك العيادة، وذاك المركز، ويطوف في مراكز الولايات؛ فيحمل معه راكبا عابرا ويسأله عن همومه وأمنياته ويحقق له مطالبه، ويضعه في المحطة القادمة، ليأخذ عابرا آخر، وفي الصباح تنهال التوجيهات على الوزراء فتجدهم يتراكضون بين القرى والحلل وداخل المستشفيات والمدارس، كل ذلك وهو وحيدا في قصره وفي مخيمه. واليوم -بحمد الله- نحظى بأسرة حاكمة عظيمة تتحرك في كل شبر من عُمان، وترصد كل صغيرة وكبيرة، لتصل إلى مرأى ومسمع جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه.
لم تكن صورة الوسم الذي كان على حقيبتكم سيدتي مُجرَّد صورة عابرة، فقد اخترتيها بعناية وتلقَّاها الشعب بالرضا؛ فهي رمز وفائك سيدتي الجليلة لعُمان ولباني نهضتها -طيب الله ثراه- وهي أيقونة للحنو والإنسانية؛ فالخيل ترمُز للأصالة، والسلطان قابوس هو عنوان الخلود والعزة للإنسان العُماني.
يقال إنَّ الخيول بكت السلطان، ويقال إنَّ النخيل في عُمان لم تُثمر في عام وفاته، ويقال إنَّ الناس ما زالت تبكيه؛ فلا يخلو موقع من ذكر مناقبه، وما أسهل أن تقفز لذهن الواحد منا مواقفه العظيمة مع شعبه؛ فالفقد ما زال أليما، والجراح لم تندمل بعد، ولهذا يُتطلَّب من الجميع لملمة الوطن، وتضميد جراحه، وعدم النبش في العميق من الألم.