حق المواطن في معرفة ما يدور!

د. محمد بن عوض المشيخي *

الصَّحافة أول وسيلة إعلامية تقليدية تظهر للوجود؛ إذ تزامَن ظهورها مع الإرهاصات الأولى للثورة الصناعية في أوروبا ما بين القرن السادس عشر والثامن عشر الميلاديين؛ فقد كانت في بدايتها تعتمد على السياسيين والطبقات الأرستقراطية في تمويلها، وكذلك في مضمون خطابها وإبرازها لهذه الفئات من المجتمع المخملي في كل من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.

ومع مرور الأيام، تحوَّلت الصحافة ثم وسائل الإعلام التي ظهرت تباعا كالإذاعة المسموعة والتليفزيون والسينما إلى وسائل جماهيرية تزود المجتمع بالمعلومات الضرورية والحقائق التي يرغب المواطن العادي الاطلاع عليها خاصة عن البيئة المحيطة من حوله، وفي الوقت ذاته تعمل هذه الوسائل على مراقبة السلطات المنتخبة ديمقراطيا، وتقييم أدائها في خدمة الوطن المواطن.

فالمسؤول لا يظهر في وسائل الإعلام لمجرد قيامه بواجبه المنصوص عليه في القانون بغرض الإبراز والتعظيم؛ بل ظهوره ونقده واجب عند وقوعه في المحظور وخيانته للأمانة التي أوكلت إليه. ومن هنا، ارتقت هذه الشعوب وتقدمت في مختلف المجالات لوجود رقيب يراقب السلطات الثلاثة المعروفة في المجتمعات الديمقراطية: التنفيذية، والقضائية، والتشريعية. أما في معظم دولنا العربية للإعلام، فدور مغاير ومختلف تماما، فدور هذه الوسائل الأساسي هو تمجيد السلطة التنفيذية ووضع كبار المسؤولين في منزلة المعصومين من الأخطاء والخطايا، فلا تدور حول هؤلاء الرموز المقدسة الشبهات. فقد حرصت السلطات التنفيذية في تلك البلدان على تغييب الدور التنويري والرقابي للسلطة الرابعة، وذلك من خلال السيطرة الكاملة على المؤسسات الإعلامية والعاملين فيها من خلال الترهيب بالسجن والغرامات المالية تارة، والترغيب بالمال والهبات تارة أخرى. ولكن يجب تذكير الطرفين بأنَّه لا بد للحقيقة أن تبين وتتجلى للوجود يوما ما. وقد قيل قديما: "دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة".     

صحيح هناك من يتهم الإعلاميين والصحفيين بولعهم الشديد وتركيزهم بشكل خاص ودائم على النخب السياسية والاقتصادية، والممثلين، ونجوم الرياضية على حساب قضايا الناس البسطاء والعلماء الذين لا يجدون طريقهم للشاشات الملونة، والصفحات الأولى للجرائد مثل غيرهم من طبقات المجتمع. ففي كثير من الأحيان، عودنا المحررون والصحفيون في غرف الأخبار وفي أقسام تحرير الصحف على وضع أولويات للقصص الإخبارية التي تعرض في هذه الوسائل على الجمهور؛ إذ يتم التركيز على ما تم تداوله في الإعلام الغربي باعتبار ذلك هو الأهم، وإن كان غير صالح للنشر من وجهة نظرنا؛ ويتمثل ذلك مثلا؛ في خبر مداعبة الرئيس الأمريكي لكلبه المفضل في البيت الأبيض أو حضور نجمة جميلة من نجوم هوليوود حفل عرض فيلم من أفلامها السينمائية، بينما يحجب مقص الرقيب في إعلامنا العربي معاناة عامة الناس في مختلف دول العالم مثل أخبار الكوارث الطبيعية وفيضانات بنجلاديش وضحاياها من البشر، فضلا عن الموت الذي يحصد الأفارقة وبعض الشعوب العربية في اليمن وسوريا والعراق والسودان، بسبب البرد والمجاعات والحروب الأهلية في الوطن العربي والقارة السمراء.

وتكمن المشكلة هنا في الكم الهائل من المعلومات التي توردها الوكالات الدولية للمؤسسات الإعلامية التي تدفع لها بالمقابل اشتراكا سنويا؛ إذ تقدر الملفات الإخبارية لوكالة رويترز مثلا بملايين الكلمات والآلاف من الصور والأفلام الإخبارية التي من الصعب نشرها كلها في الصحيفة أو نشرة أخبار مصورة مدتها ساعة فقط. فأكبر صحيفة في العالم من حيث عدد الأوراق والملاحق، لا تتجاوز الكلمات المنشورة فيها مائة وخمسين ألف كلمة.   

ومن حُسن الطالع أنْ نعيش اليوم عصر الانفتاح والحريات الشخصية؛ إنَّه عصر المواطن الصحفي والسماوات المفتوحة التي أتاحت فيها الثورة الرقمية لعامة الناس منابر ومنصات إعلامية جديدة وغير مسبوقة عبر شبكة الإنترنت للتعبير عن الرأي وتوصيل ما يدور في الخواطر وما تخفيه النفوس من أحزان وأفراح والتي كانت في السابق مصادرة وبعيدة عن العيون واهتمامات الرأي العام. فالدولة الوطنية التي كانت تسيطر على منافذها وحدودها القومية، وتتحكم بكل ما ينشر في وسائل الإعلام المحلية التي تحت مراقبتها وتصادر الموجات الأثيرية العابرة للقارات غير المرغوب فيها، قد ذهبت إلى الأبد. فرواد التواصل الاجتماعي يمارسون عملهم في بيئة تسودها الثقة بالنفس بعيدا عن رقابة الحكومة خاصة الذين يكتبون بأسماء مجهولة الهوية.  

وفي دراسة علمية طبقتها شخصيا على أعضاء جمعية الصحفيين العمانية، والعاملين في وسائل الإعلام في السلطنة بعنوان: "العوامل المؤثرة في العمل الإعلامي العماني: دراسة ميدانية على الصحفيين والإعلاميين في سلطنة عُمان"، ونشرتها جامعة السلطان قابوس عام 2017 في مجلتها العلمية؛ اعترفت نسبة كبيرة من الإعلاميين بمنافسة الإعلام الجديد لوسائل الإعلام التقليدية التي يبدو أنها تراجعت أمام التحديات التكنولوجية الجديدة. فقد كشفت هذه الدراسة؛ اعتراف 73% من العاملين في حقل الإعلام بهذا التحدي، بل وإحراج هذه الوسائل الجديدة لوسائل الإعلام التقليدية، خاصة عندما تبادر وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات مثل "سبلة عمان" والصحف الإلكترونية مثل "أثير" بنشر مواضيع حساسة وجريئة تحاول الجهات الرسمية منعها من الإعلام الرسمي.

وبالفعل تعمل وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها؛ كعامل ضغط وإحراج لوسائل الإعلام التقليدية في السلطنة وغيرها من الدول المجاورة، لنشرها مواضيع بأقلام وكاميرات المواطن العادي والتركيز على قضايا إنسانية كانت محظورة ومغيبة، وذلك لحساسيتها وعدم تعود المجتمع على مطالعتها عبر هذه المنابر، قبل الولوج إلى عالم (تويتر وفيسبوك وتطبيقات واتساب ويوتيوب) التي بحق كشفت المستور من حولنا.

من المؤسِف أنْ نسمع بين وقت وآخر من يضيق صدره بالمواطن الصحفي الذي يعبر عن رأيه عبر هذه النوافذ الإعلامية التي وفرتها التكنولوجيا الغربية بالمجان، ومبرر هؤلاء أن رواد وسائل التواصل الاجتماعي في المجمل ينشرون الشائعات ويختلقون القصص المفبركة التي تثير الرأي العام بهدف نشر الفتن.

ويمكن القول هنا، إن هؤلاء يمثلون هذا المجتمع الذي فيه الكاذب والصادق، ولكن من حسن الحظ أن إيجابيات هذه الوسائل أكثر من سلبياتها؛ فالصدق نجاة وغاية قد لا تتحقق بالكامل بين البشر عبر العصور التاريخية المختلفة.

عمانيًّا.. نفتقد إلى ما يعرف بالصحافة الاستقصائية التي يجب أن يتدرب عليها الصحفي في سنوات الدراسة الأكاديمية من خلال تطبيقات متقدمة وأعمال ميدانية في مجال الكشف عن الفساد المالي والسياسي، وكذلك القضايا الجنائية والإنسانية الأخرى التي تتعلق بتطبيق القوانين والتشريعات والعدالة الاجتماعية، كما أنَّ مشكلة الحصول على المعلومات المحلية من مصادرها من أهم المعوقات التي تواجه وسائل الإعلام المحلية بشكل عام والصحافة بشكل خاص. فالمعلومات التي تحتفظ بها الوزارات والأجهزة الحكومية لا تقدم إلى الصحف ووسائل الإعلام بشكل طبيعي وسلسل كما يجب.

إننا بحاجة ضرورية إلى قانون يحمي الصحفي ويشجعه على الحصول على المعلومات والأخبار من مصادرها بدون تأخير. كما يجب على صناع القرار والوزراء أن يحترموا العاملين في هذا القطاع الحيوي، ومدهم بالمُخبَّى خلف الكواليس، فالصحفي مثل الشمعة التي تضيء الدروب المظلمة للآخرين؛ فهو ليس عدوًّا أو مجرمًا، بل يمارس أقدس مهنة في التاريخ.

وفي الختام، يجب التذكير بموضوع قديم جديد، سبق وأن تناولته أكثر من مرة عبر هذه النافذة، فقد حان الوقت للمؤسسات الحكومية التي تملك صنع القرار، وتتعامل مع القضايا اليومية للمواطنين، أن تبادر بتعيين ناطقين رسميين لتقديم المعلومات إلى وسائل الإعلام المحلية بشفافية وبدون تردد أو تأخير؛ شريطة أن تتاح لهؤلاء المتحدثين الرسميين صلاحيات واسعة، وأن يتم تدريبهم تدريبا عاليا في مجال التعامل مع وسائل الإعلام، وذلك حتى لا تتكرر مشكلة دوائر الإعلام والعلاقات العامة في الوزارات التي تعتمد على الخطوط الحمراء التي تحجب كل شيء عن وسائل الإعلام إلا توديع ومغادرة كبار المسؤولين.

* أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري