فاطمة الحارثية
في وقتٍ ما على مقاعد الدراسة، أخذت أتمعَّن في حماس حديث محاضر حول فرصة التعليم وربطه بين الشهادة ونعيم الوظائف والرواتب، سألت المُحاضر: ماذا عن باحث العلم من أجل العلم وليس الوظيفة؟ ارتسمت على وجهه ابتسامة جانبية -ربما ساخرة لست متأكدة- وسألني بماذا ستنفعكِ الشهادة إن لم يكن لديكِ طموحات؟ فتساءلت: وهل الطموح محصور في الوظيفة؟ فقال لي: لقد بدأ عهد الحرفية بالضمور، ومن أجل العيش الجيِّد لابد من وظيفة، وهي مُرتبطة بتخصصكِ، بماذا تنوين أن تتخصصي؟ قلت له ببراءة الطفولة: سوف أتعلم كل شيء؟ ضحك بصوت عالٍ، ونظر إلى جمهور الطالبات وقال: العلم من أجل العلم هو ترف، لا يستطيع مُعظمكم بلوغه، فركزوا واختاروا التخصصات التي تُدر عليكم المال فهي أنفع لكم؛ فهل من الممكن أن تكون تلك النصيحة التي تم تعميمها في ذلك الحين "ومازالت إلى الآن" هي التي ابقتنا إلى يومنا هذا في فئة دول العالم الثالث؟!
لمست في بعض الشباب من حولنا، وإن كانوا قلة، محاولاتهم الحثيثة لتغيير مفاهيم الوظيفة، لتعميم الفائدة بين الدخل والتطوير، وربما البعض منهم في محاولة لإخراج الطاقة الكامنة لديهم، وهذا الفئة قليلة جداً، ويصعب عليها خوض مضمار الابتكار والنهضة العلمية العملية، ربما بسبب البيروقراطية التي اثخنت جهات العمل، أو ربما لأنها في الغالب تحتاج إلى كفيل، أو جهة راعية لتستمر في الاختراع، والبحث، والتجارب لصناعة العجائب الفكرية؛ بالرغم من أهمية الموظفين (التسمية الحديثة للحرفيين) فإنَّ الدولة الناجعة هي التي توازن بين نسبة وجودهم ونسبة تمكين علمائها، ونكاد نتفق جميعاً أن التعليم الحالي لا يصنع علماء، وهذا جانب آخر يحتاج إلى مراجعة عميقة، خاصة مع هيمنة طفرة مهنية التعليم لمواكبة الحاجة السوقية للعمالة، حيث بدأ هذا التوجه بقيادة مناهج التعليم والتأثير في فكر النشء وتوجهاتهم بشكل كبير. إن تبني المؤسسات ومقاعد الدراسة لا يصنع علماء، ولا مخترعين ولا عباقرة، بل يتم رصدهم منذ السنوات الأولى من مراحل حياتهم مما يوجب العناية الخاصة بهم، وتوجيههم نحو مصاف العلوم وتهيئة البيئة المناسبة لينفعوا الناس والوطن.
إنَّ المال يشتري مقاعد الدراسة والشهادات الجامعية ويصنع خرجين، ولكنه لا يخلق عباقرة ولا علماء، ولم نعد في زمن تكريم العلماء، بل أوجب الحال تمكينهم وإعطائهم مكانتهم لتوجيه دفة التقدم والنمو والتفوق من أجل إيجاد منابر طموحاتنا على مصاف الدول، ولنصبح دولة يتبع نهجها الدول الكبيرة والصغيرة، إننا نلمس الاهتمام بالشباب وواجب الذكر أنهم يُضيفون بعض التجديد، غير أنه وإن كبرت أحلامهم، ينقصهم استيعاب جوهر الوعي وحقيقة التغير، وحكمة الاختراع وسعة الابتكار التي يصنعها العباقرة، فالعلماء لا يُعيدون هيئة حاضرة بل يصنعون من العدم وجودا، ومن الأزمات حلولا ولا يقبلون الاستعارة من عقول الغير ولا التطبع بفكر الغرباء، ومدى نفعهم يكون للعموم وليس خاصاً.
أكثر ما واجه العلماء من تحديات هي مقاييس الذكاء، والتقييم العلمي، وقدرة الغير على فهمهم، وكما نلاحظ إجمالا أن مفهوم العاِلم انحصر في الدول العربية عموماً على علماء الدين، وارتبط به في تحيز أثر سلباً على علماء العلوم الأخرى، حتى أن البعض حجم تسمية "عاِلم" لفئة دون أخرى، وابتكروا تسميات أخرى كباحث أو خبير أو مخترع في تمييز واضح، في المقابل تداولوا ذات التسمية "علماء" وقبلوا قرانها بالفيزياء والأحياء والكثير من العلوم عند ذكر خبراء ومخترعي الدول الغربية، ولا أعلم لماذا!؛ والأكثر دهشة نُدرة إقران صفة العالِم للعلماء إلا بعد موتهم كتكريم لجهودهم وعطائهم.
إننا في حاجة حقيقية لغرز مفهوم تقدير العقول المختلفة، المتقدة، السامية، المبدعة، وتبني النوابغ، والكف عن الاشتغال في جمع شهادات الغرب عنَّا في إحصائيات وكأننا لا نكون شيئاً إلا باعترافهم وإقرارهم. إن معايير ومقايس الذكاء وضعها إنسان ومهما كان ذكياً فهو ناقص محدود، وليس من الصواب تعميم ذات التقييم على الجميع، فلسنا أشباه بعض، وليس من الصواب أيضاً اتخاذ تلك المعايير والتقييمات مرجعاً علمياً يُثبت مستوى ذكاء الناس.
سمو...
ربما لم تُنجب عبقرياً ولم يُقدر الله لك ذرية مُتقدة الذكاء، لكن تستطيع أن تتبنى أحدهم تحت بند التبني العلمي لتنفع الأمة، وانتبه التحصيل العلمي العالي لا يعني بالضرورة عبقرياً، فربما أنت أمام حافظ جيد وليس مفكرًا خلاقاً.