القيادة (5)

 

 

مؤسسة صناع القادة *

* صناع القادة يصنعون الفارق

 

كثيرا ما وسِم القادة بالتقصير مع زوجاتهم وأولادهم بل ووالديهم، وكأنّ ضريبة أن تكون قائدا ومؤثرا هي التقصير مع ذوي القربى، بل إن البعض ذهب لأبعد من ذلك، مُدِّعيا بأن الحالات التي سُجلت قريبا "منحرف" أو "مختل"، كان سبب ذلك القائد العظيم الذي مُورس عليه الإهمال أو العنف الأسري أو متلازمتيْ ماذا فعلت لمن حولك؟ وماذا تركت لمن بعدك؟

ولعلَّ أنسب ما نعالج به هذا الطرح هو الأمثلة التي تلامس حال العظماء مع أسرهم، وأرقى هذه النماذج دائما وأبدا هم الأنبياء الكرام عليهم السلام، فمن أنبياء الله من أخرج أسرا متصلة متواصلة في العطاء، بل قد يكون هذا هو الأصل بينهم وإن شذ بعض من حولهم، ففي أوج الطوفان وعتو الجريان لا يزال قلب سيدنا نوح متعلقا بابنه، وحتى بعد أن حال بينهم الموج ها هو يناشد ربه بما عهد عنده، والنظر في حال امرأة النبي نوح أعجب وأغرب فبالرغم من أنها ساءت مثلا للذين كفروا إلا أننا لا نجد تجريحا أسريا أو عاطفيا بينها وبين سيدنا نوح، بل يبدو أن الأسرة كانت متماسكة في حدود العلاقة الأسرية، رغم الخلاف العقائدي والمسار الدعوي، ليتبين لاحقا أن هذين القريبين لا يعكسان التأثير القيادي الأسري لدى سيدنا نوح حين يسجل المؤرخون أن الأمم انبعثت من أصلاب نوح عليه السلام. الخليل إبراهيم عليه السلام كان أمام تحدٍّ آخر مع "أبيه آزر" يختلف المسار والفكر لكن الصحبة بالمعروف والعاطفة بالمألوف لا تتأثر، الأسرة الإبراهيمية المتمثلة في أزواجه وأبنائه هي أسرة قيادية من الطراز الأول؛ حيث إن أثرهم كان بنموذج التآزر وزرع القيم مسارا ثابتا حتى مع الأحفاد "ملة أبيكم إبراهيم"، وأن يحمل أبونا إبراهيم حق الأبوة حتى يومنا هذا مؤشر عظيم على قيمته الأسرية مع قيمته النبوية، الأسرة الموسوية هي كذلك أنموذج جميل تأثر به سيدنا موسى وأثر فيه؛ فقد اختار وزيرا من أهله ليحمل معه عبء الرسالة وتكون له الكرامة فأي اهتمام وكرم بعد ذلك، لا شك أن الأسرة المحمدية هي الأكمل والأعظم، ويكفي التوجيه المحمدي العظيم لكل قائد أراد أن يكون في طريق الكمال البشري حين قال "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" عليهم السلام جميعا.

ولا يخفى على القارئ أن الكتاب العظيم جاء بمنهج أسري مفصل في وصية لقمان الحكيم لابنه؛ لتضع هذه الوصية أساسيات التلقين والصنع الأسري القيادي، بداية من تأصيل الاعتقاد وقيمة الأصل في قيمة الوالدين وآلية المصاحبة لهما، إلحاقا بالنزاهة والأمانة والمحاسبة الذاتية، ثم إقامة أواصر الصلة والصلاة في المجتمع والأمر بالمعروف المحمود والنهي عن المنكر المذموم والصبر في كل حال، مبينا أن الشخصية القيادية ليست شخصية مهانة بين الناس ولا شخصية متكبرة عليهم، بل إن تفصيل هذه الشخصية جاء حتى في مشيها وصوتها، لتشمل هذه الوصية الأبوية على ما نسميه اليوم ببناء الذات من الداخل والخارج.

فإن كان الحال كذلك مع من حملوا أكبر وأصعب وأعظم مهمة، فلا شك أن من دونهم أيسر وأقدر على التحقيق، الإمامة العمانية ضربت مثلا قياديا عجيبا حين تقرأ أن تسلسلا أسريا قاد دولة بل إمبراطورية خط التاريخ نجاحها وتقدمها، ستُدرك حينها أنَّ هناك مدرسة قيادية في هذه الدولة يتغذَّى بها الصغار مع الكبار، فتروى عقولهم وقلوبهم بماء القيادة والريادة، وحتى عهد قريب فإن المرأة العمانية أرضعت صغارها لبن أم موسى فهي تربيهم مع أبيهم لينهلوا الفكر والعلم والشجاعة، ثم يحملهم أبوهم إلى مجالس الكبار ليسمعوا ويعوا ويتقنوا الصناعة المجتمعية للقائد.

كما تحدثنا في المقال الأول أن القيادة شمولية التأثير والعطاء، فلا يمكن أن يكون القائد الناجح مقصرا مع أسرته ومتكاملا خارجها، إلا أن الأهم والأصح هو أن ندرك أن أسرة القائد الحقيقية هي ليست فقط تلك التي تجمعها أواصر الدم والنسب، بل إن أسرته الحقيقية هي تلك التي بناها وحملت معه رسالة الفكر والتأثير ورتقها بنور العقل، فينشرون معه وبعده هذه الرسالة بذات الثوابت والقيم.

ولعلَّ أبرز ما يهم القائد الناشئ هو التناسب في العطاء بين الأسرة والمجتمع، والدارس لمجمل النماذج والبحوث سيجد أن أنجع الطرق هو اعتبار أفراد الأسرة جزءا من المجتمع، تشركها في البناء والعطاء ليتبنوا معه روح الرسالة ويكونوا جزءا منها، وكما أن القائد لم يصنع من نبع واحد بل شرب من اثنتي عشر عينا، كان لا بد أن يوجه أسرته وآله لينهلوا من مختلف التخصصات والمهارات، وأن ينفق من ماله ووقته ليكسبهم هذه المكنات ويضمهم في الدورات والورش التي من شأنها أن تصقل شخصياتهم ومهاراتهم من ذوي الاختصاص والمعرفة.

وقد وصف بعض الباحثين العلاقة القيادية مع الأسرة من خلال التأكيد على مفهوم القيادة بالمشاعر، وضرب مثلا مهما في توفير ما يحتاجه الفرد بالأسرة من احتياجات فطرية كالمأكل والملبس والمشرب وبعض الكماليات العصرية، وتوفير الاحتياجات النفسية بتبادل مشاعر الود والاحترام والتربية والتهذيب، فقد لا تستطيع توفير جهاز الحاسب الشخصي لابنك أو ابنتك، لكن تستطيع أن تتشارك معه في جهازك وتتابع معه مساره التعليمي والتدريبي، مُشعِرًا إياه بقيمته الشعورية رغم أنه قد يبدو له في الوهلة الأولى أنه أقل حظا من أقرانه الذين يمتلكون الحاسب والهاتف وجهاز الألعاب، ثم تنتقل به من الاهتمام بالكماليات إلى تحمل المسؤوليات، فهو في مرحلة ما شريك مشارك لك في البيت الذي تنتمون إليه، فإذا تمكن منه حس الانتماء للمنزل وأنه جزء أصيل منه وليس مجرد زائر ينتظر المغادرة، استطعت أن تُشركه في البناء القيادي الأصغر لينطلق بعدها معك لتبني معه مرحلة البناء القيادي الأكبر ألا وهي دائرة المجتمع، فما هي العلاقة التي تجمعه بمن حوله: هل هي علاقة أخذ أم عطاء، أم علاقة تأثير وتأثر ضمن الصبغة العامة التي تتصف بها الشريحة المجتمعية المقصودة؟

تعليق عبر الفيس بوك