الحرية للأقوى

 

فاطمة الحارثية

 

أراد القرار يوماً أن يُثبت أنَّه حر نزيه، وما يستند عليه من مُعطيات للأحكام، هي السليمة والمتاح والممكن، ولا ظلم على الأرض كائن ولا خطأ، وكل اعوجاج هو من عين الرائي وليست الحقيقة، وأي تغيير يحدث في طيات نصه إنِّما لمُلاءمة الظروف ومرونة المضي قدمًا، فذهب إلى عامل يسأله عن ركائز قراراته، فبهت العامل وقال: أنا أنفذ طلبات من هم أعلى مني، فأطرق القرار قليلاً وقال له إذاً أنت لست صانع قرار، فتوجه إلى مسؤول وطرح عليه نفس السؤال، فلقي نفس الإجابة، وذهب لمن هو أعلى منه ولم تتغير الإجابة، وهكذا سقط القرار أرضًا ونفض عن اقتناع رداء النزاهة والأمانة عنه.

كانت بضع سنين، خال أثناءها أنه يعلم كل شيء في الكون، وأنه الخبير المكين، جادل أباه فأمه فأهله، تخرج من أعرق الجامعات، ليسخر ممن قبله في ميادين العمل، وخبرات حاولت أن تُخبره عن ماهية الحياة، وأنها ليست كما ذكرتها كُتب الحالمين أو الدراسة أو حتى قريبة من بعض جمال الأفلام، أجزم أننا نضخم الأمور، ثم أقسم أننا لا نعرف كيف نعيش، وأننا نخضع لنظام الخنوع وليس حياة الاختيار والقرار، أخذت منه الأيام، ثم السنوات ما أخذت، لينتهي عند مُفترق طريق، لا صوت يُطمئنه ولا حقيقة يمكن أن تجد له رداً يُرضيه في حوار "لماذا أتألم"، وآلية الانتظار والتسليم؛ نعم لا يمكن لفرد أن يصنع الظروف ولابد من أشباه تتفق لتُصنع الظروف، وعليه أن يتعلَّم جمود المشاعر وبرود الضمير، والتأقلم مع نتائج ما صنع ولا مفر من المضي في طيات المتغيرات، حتى يستطيع أن يعي تمام الفعل وتقلبات ردود الفعل ويحقق أشباه حلم.  

لا تسمح الحياة أن تُحكِم رأيك وأنت عليها، ولا تقبل منك استحقاراً أو غطرسة، لأنك لست وحيدا وفعلك أغلبه يؤثر على من حولك ويمضي بمن حولك، لا أحد منِّا يستطيع أن يجزم عاطفة أحد أو مشاعر الناس من حوله، وحتى إن أكد الشخص نقاءً أو عداءً فالحياة برهنت أن دوام الحال من المحال؛ فحبيب المساء قد يغدو عدوا عند الفجر، وعدو قاعات الدراسة قد يُصبح شريك عمل مخلص، إننا لا نبصر الحب بل نعتقده، وهو يصرع كل ما حوله ويُبدل الأحوال في طرفة عين ويقظتها.

كيف نستطيع إذاً أن نبصر الحب يقيناً؟ لستُ ممن يؤمن ببرهان التفاعلات الذي يقول عنه البعض "كيمياء اللقاء أو العلاقة"، لأنَّ الكيمياء ليست كل شيء، ولست أيضاً ممن يجد في غزل الكلام وجميل العبارات والوعود، حقيقة تؤكد صدق التعبير عن مشاعر نبيلة مثل الحب، إنَّ الحب سُّمو يجزمه الولاء والسلوك والاهتمام وحفظ الحقوق ونقاء العطاء والمصارحة والصدق قبل كل شيء.  إننا لا نستمع للحب في أشعار نزار قباني أو طرب عبد الحليم حافظ أو روايات رومانسية بل في يد تربت على ظهرك حين تُربكك الحياة، وحضن دافئ يجمع تبعثرك، ودعاء صادقاً يُقيل عثرتك، كلنا نخطئ لكن لن يغفر لك إلا مُحب، كلنا نسأل بطرق مُختلفة المساعدة لكن لن يستجيب لك دون أن يجرح شخصك إلا محب، كم غدرا عشته؟ وكم خيبة أوهنت عيشك؟ وكم ناكرا عاشرت؟ وكم ظلما جابهت؟ أو ليس هذا دليل أنك لا تبصر الحب؟ أو ربما تُريده مع غير أهله.

سُّمو..

إنها سُويعات في أيام، أقرت الديانات أجمع أنها ابتلاءات دائمة، فأربط على قلبك، وأفسح المجال لمن قد لا ترغب في تقربه ووده واجتهاده من أجلك، فربما في ذلك رسالتك وقدرك لتمضي قدمًا إلى نهايتك المحتومة، وتنال حريتك.