صالح بن أحمد البادي
لماذا توجهت شركة الطيران العماني إلى خفض أعداد الطائرات من 50 طائرة إلى 36 طائرة؟ وهل ستصل بذلك لهدف إنهاء الاعتماد على الدعم الحكومي؟ ومتى؟
لنفهم المسألة بصورة أوضح؛ علينا أن نعود للوراء والنظر في سبب إنشاء الطيران العماني أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وحالات المخاض التي تشكلت عبر عدة محطات حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
الطيران العماني كان دوما له أهداف محددة، من بين مجموعة عديدة من الأهداف؛ لكن سنركز هنا على أبرزها من وجهة نظرنا كمحلل وكموضوع للتحليل.
وبعض أبرز الأهداف وفقا لتحليلنا تتمثل في:
- أن يكون الناقل المحلي العالمي للسياحة المستهدفة وللمواطنين ورفع اسم عمان في محافل قطاع الطيران.
- أن يكون ضابطا للعائد الاستثماري من خلال ضبط التكلفة؛ كون قطاع الطيران (غير الاقتصادي) وفي أفضل أوقاته نسبة أرباحه متدنية مقارنة بقطاعات كثيرة؛ لذلك لا تنظر الدول إلى أرباحه المباشرة لكنها بلا شك تبنيه ليكون مربحا كشركة وكقطاع، لكنه أيضا مفيد جدًّا للاقتصاد من حيث الأثر الشمولي.
- أن يكون داعمًا للاقتصاد الوطني من خلال الأثر الاقتصادي على الاقتصاد الوطني، وهنا نتحدث عن أثر اقتصادي وصل لملياري دولار تقريبا.
كانت نظرة دول المنطقة والعالم قبل العام 2014 تتمثل في التوسع المضطرد والسريع والمؤثر ولا شيء غيره في قطاع الطيران، سبب ذلك النمو الاقتصادي المتواصل عالميا خصوصا، وإقليميا، والأهداف الوطنية الموضوعة، والتي كان من ممكنات تحقيقها طيران وطني فاعل. وكان العام 2003 بداية نمو ترتكز على نمو أسعار النفط القادمة من مخاض عام 1999 والذي استمر حتي أوائل سنوات خطة عُمان 2000-2005. كانت فترة خاصة في عُمان في الشأن السياحى؛ حيث شكلت في أول خمس سنوات 2001-2005 كلٌّ من وزارة السياحة -الذراع التشريعية ومن ستقود القطاع- وكلية عمان السياحية -الذراع التأهيلية والتدريبية- ومجموعة عمران -الذراع الاستثمارية للحكومة- وذلك لأن مؤشرات نمو القطاع كانت رائعة وكان التوقيت كذلك رائعا لأن هذا التشكيل المكتمل عند بدء هيكلته كان مُنظما كقطاع، مستهدفا الأهداف الوطنية السياحية وما حولها من أهداف مرتبطة وداعمة، وكانت المؤشرات تسر الناظرين.
وكان الاقتصاد ينمو ومداخيل النفط ترتفع وعمان -من حيث الحساب الختامي- سجلت في بعض سنواتها -على مدى ما يقرب الـ3 سنوات- فائضا في الدخل؛ اي لا عجز ماليا في ميزانية الدولة.
دول المنطقة كانت تسجل كذلك معدلات نمو، فما إن تسأل كبار الاستشاريين العالميين المؤثرين والمتخصصين بالقطاع، إلا وكان المقترح يشير إلى ضرورة التوسع الاقتصادي بأي حال؛ وذلك أمر طبيعي إذا لو كنا بذلك الوقت، لكُنّا مع هذا التوجه قلبا وقالبا، وهذا توجه عالمي ازدهرت فيه السياحة كما لم تزدهر من قبل.
كانتْ المنطقة كلها تتحرك من طيران خليجي واحد -وهو طيران الخليج فيما لو استثنينا طيران الإمارات- باتجاه شركات طيران مستقلة وتنمو بسرعة كبيرة. لم تكن المنطقة، بل كان العالم كله؛ حيث بلغت طلبات شراء الطائرات فترات انتظار طويلة بعد توقيع عقد الشراء مع المصنعين العالميين، وقلَّ أن يحدث ذلك في آخر أربعين سنة. وكان الأسرع والأكبر (اسمية هنا تشبيهًا "فهد الطيران") هو من سيستحوذ على أكبر حصة من الأحجام السياحية الكبرى التي تظهرها الأرقام بالمنطقة والعالم.
بالأرقام.. نحن في عُمان تحركنا من أقل من 3 ملايين مسافر كمثال في بداية 2000 إلى أن وصلنا إلى أكثر من 15 مليون مسافر بنهاية 2019، وبهذا أكملنا 5 أضعاف أعداد المسافرين وبأحجام مطارات رائعة وتجهيزات مميزة خلال عشرين سنة؛ أي بمتوسط نمو بلغ بحدود 25% سنويا كمتوسط.
كانت هناك نسب إشغال بالرحلات عالية جدا في ذلك الوقت، ومنذ 2008 استحوذت شركات عالمية بطريقتين؛ إما التوسع العددي في الطائرات (نموذج طيران الإمارات والطيران العماني) أو الاستحواذ العالمي على شركات الطيران العالمية (مثل طيران الاتحاد).
وكان التوجه عالميا واقليميا ومحليا أنه كلما توسعت في الأحجام أدارت التكلفة بشكل أفضل وحققت الأهداف الاقتصادية للوطن. وذلك كان صحيحا تماما في ذلك الوقت؛ بل كان معروفا أنه لو لم تتملك طيرانك فلن تستطيع استقطاب سياحتك ولن تحقق أرقامك المستهدفة. ولن أتحدث هنا عن بعض الملاحظات المهمة؛ لأنه ليس مجالها هنا حاليا.
إدارة قطاع الطيران تتَّسم بمنافسة شرسة في كل سنواته؛ وبالتالى تجب إدارته بشكل متخصص ومتمكن اقتصاديا واستثماريا وفنيا وخدميا، وكلما أوجدنا التوازن يتحقق الفارق، ويمنح الشركات القدرة على التقاط كميات أكسجين نظيفة بعيدا عن زحمة الرؤوس قصيرة الأفق!!
اليوم.. أصبحت كراسي شركات الطيران العالمية والإقليمية والمحلية فارغة من جهة، ووضعها الاقتصادي مزرٍ؛ وبالتالي فإنَّ أية إمكانيات تفاوضية بأي شأن من شؤون القطاع عالية الاستجابة وعالية الوفرة لإيجاد الكرسي الذي تبحث عنه لمسافرك، ولكن بأقل كلفة.
هناك شركات طيران حكومية تدعمها الحكومات، وهناك شركات طيران خاصة تواجِه تحديات، وهناك خليط من الاثنين؛ وأيًّا ما كان فإنَّ فرصتك كمالك -حصة مسافرين لإشغال الكراسى- عالية في ظل وضع اقتصادي واستثماري مزرٍ بقطاع سيأخذ ما لا يقل عن خمس سنوات ليعالج الوضع، إن تمكَّن من ذلك؛ لأنَّ تسارع السقوط أضعاف تسارع النمو، ومضاعفاته مكلفة، والمصارف التي كانت دوما يدًا كبرى لدعم التوسعات يُعاني بعضها من نقص السيولة التي شحت مع تحديات كبرى، والمستثمرون الذين كانوا داعمين تحول تركيزهم إلى خفض التكلفة وتحجيم الأثر، وبناء شراكات إشغال، أو حصص للبيع، وكل هذه الأمور تدعم قرار تحجيم الأثر وبناء شراكات إشغال كراسي (مسافرين).
وأخيرا.. شكرًا لقرار الطيران العماني الأخير بخفض أعداد الطائرات؛ فهو صحيح بل إنَّه الأصح حاليا، ورغم أنَّ هناك تكاليف وفوائد لكل قرار، إلا أنَّ الفكر نفسه صحيح، ونعتقد أن تنفيذه سيكون صحيحا، وأن إدارة الأصول الخارجة من سجلات الطيران العماني وفق القانون، ستُعالج معالجة صحيحة من حيث الأثر المالي لصالح الشركة، والأثر الإستراتيجي، كذلك ومن المؤكد أنَّ هناك برنامجا عمليا منهجيا صحيحا مكتملا للوصول إلى هذا الهدف.
وسنُفرد مقالا آخر مُتخصصًا في بعض ما يجب التركيز عليه في القطاع ليواكب هذا التوجه الصحيح، ويحقق الأهداف المنشودة، والمضي قُدما نحو الأمام. وعلينا مواصلة استدامة قراراتنا؛ لأنَّ تكلفة تغيير التوجهات عالية ومؤثرة، خارجيا وداخليا، والسمعة التي تُبنى بأي شكل يجب أن تتوافق مع ممارسات القطاع الصحية.. وهي كذلك إن شاء الله.