يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"كل صخرة هي حرف وكل بحيرة هي عبارة وكل مدينة هي وقفة، فوق كل مقطع وفوق كل صفحة لي هناك دائماً شيء من ظلال السحب أو زبد البحر"- فيكتور هوجو (أديب فرنسي).
لكل مدينة أحياء وشوارع وحارات واسعة وضيقة، كل منها لها تاريخها وأسراراها وقصصها وحكايات لها أوَّل ولا آخر لها، المدينة هي قصص حياة ناسها وكفاحهم، أفراحهم وأحزانهم، حتى روائح الأكل الطيبة تحمل تاريخا اجتماعيا لا يستهان به، حتى قصص الشجاعة والكرم والخوف والبخل لها وجودها بين جدران المدن. المدن في حقيقتها كائنات حية يحييها البشر الساكنون، ومن خلال يومياتهم يبدأ التاريخ نسج الحكايات والقصص.
أتذكر قرأت مرة مقالاً لأحد المتحمسين لكتابة تاريخ إحدى المدن، وفي المقال يتحدث بشفافية شبه مطلقة دافعها اليأس والخذلان، إذ يقول بما معناه بأنه يعرف بالتأكيد تاريخ تلك المدينة المستهدفة من بحثه، وهي معلومات عامة معروفة وتدرس أيضًا بالمدارس، لكنه كان يبحث عن تاريخ لم يحكَ ولم يدون، يريد كتابة شيء جديد يسجله التاريخ له كأول باحث يطرق هذا الباب، وبالفعل مضى في بحثه وبالفعل وجد كنوزا من القصص التي تحكي عن يوميات أهل المدينة قديما وحاضرا، لكنها غير قابلة للنشر!
كيف تاريخ وبنفس الوقت غير قابل للنشر، لأنها أسرار ناس، حوادث فيها كل أنواع السلوك الإنساني السوء قبل الحسن، لأننا بشر ولسنا منزهين، هي الحادثة التي جرت مع العائلة الفلانية أو العلانية، لكنها لاتصلح كأثر تاريخي لأنَّ الدم وقتها قد يصل للركب كما تقول العرب، ولافائدة تاريخية منها أساسا، كذلك قصص قد توضع في باب تاريخ الفضائح والمؤرخ الحصيف ليس مهمته كتابة كل شيء وأي شيء، بل تمنعه ثوابت شرعية وأخلاقية، بعض الأحداث لابأس أن تتداولتها ألسنة الناس لأنَّ ألسنة الناس لا رادع لها سوى الوازع الأخلاقي قبل الشرعي، وستبقى غالبا في باب الإسرائيليات على طريقة خذ وخل، لكنها لاتصلح للنشر البتة، فالتاريخ ينقل الأمور المهمة التي يتفاعل بها الزمان والإنسان والمكان وبما يؤثر على مابعد هذا الحدث وليس كتابة أمور لا فائدة منها وتحمل من الضرر الشيء الكثير !
إذن كيف يكتب التاريخ الاجتماعي الحقيقي، بالطبع لايمكن على الأقل بوقتنا الحاضر كتابته بشكل واضح، نظرا للنزعة الاجتماعية المانعة وليست الدينية لأننا في بلاد العرب نقدم الجانب الاجتماعي قبل أي شيء حتى قبل المصلحة العامة، لذلك برزت مجهودات لتأريخ الجانب الاجتماعي إنما بشكل يرضي أكثر الأطراف، وهذا مانجح فيه نجيب محفوظ بالذات في تأريخ الحارة المصرية، فكانت روايات محفوظ هي أساسا كتبا ومدونات تاريخية تحكي مايقال وما لا يقال، تغلب على العزل الاجتماعي لتلك القصص المروية وحولها لرواية أدبية، هو لم يقل تاريخ بل رواية، والرواية تحتمل كل شيء وأي شيء، لذلك لا استغرب أن تكون الحبكة الروائية في أعمال محفوظ هي أساسا أحداث واقعية حدثت ويعلم من كان في هذه الحارة أنها حدثت ومع فلان وفلانة والعائلة الفلانية وفي الوقت الفلاني أيضًا، وهنا تكمن قوة أعمال محفوظ أنه نقل أحداث الحارة وأرخها لكن كرواية وليس كتاريخ، وهو بذلك ترك الحكم للقارئ إن أرادها تاريخا فهي تاريخ، وإن أرادها رواية فأنت أمام رواية!
أعتقد في كل بلد لابد من وجود نجيب محفوظ خاص، ينقل تاريخ المدن المخفي الذي لاعتبارات كثيرة صعب يدون بل لايمكن تدوينه، فيتم التغلب على ذلك بأعمال روائية محكمة الجانب الأدبي وتقدم بشكل واقعي بطريقة تحافظ بها على عدد من الاعتبارات، على اعتبار استحالة نقل كل شيء وأي شيء، فكل باحث تاريخي عندما يشتغل على الجانب الشفوي من كبار السن من نساء ورجال يحصل على معلومات ثمينة لكنها غير قابلة للنشر، لكنها معروفة وتتداول بين الناس، وهذه حقيقة المدن وطبيعة ناسها، ليس كل مايُعرف يقال لأنَّ الاعتبارات أقوى بكثير من جهد باحث أراد تسجيل موقف تاريخي باسمه!