اليوم العالمي للإذاعة والخطاب الدعائي الدولي

د. محمد بن عوض المشيخي *

* أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

تعدُّ الإذاعة المسموعة من أهم الإنجازات الفكرية والحضارية في القرن العشرين، والذي شهد أول بث إذاعي مُنتظمًا في التاريخ بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1920م؛ فالعلماء الأوائل الذين اخترعوا هذه الوسيلة أمثال الألماني "هيرتز" الذي أكد إمكانية نقل واستقبال الموجات الإلكترونية لاسلكيا، والإيطالي "ماركوني" الذي اخترع الراديو، لم يخطُر ببالهم أنَّ اختراعهم القائم على نقل الصوت البشري عبر موجات الأثير سيتحوَّل يومًا ما إلى إحدى أهم وسائل الإعلام الجماهيري؛ فكانت البداية للراديو الذي ينقل الصوت دون أسلاك؛ إذ كان يُستخدم في الملاحة البحرية لنقل المعلومات بين الموانئ والسفن البريطانية الأمريكية عبر المحيط الأطلسي، كما كان يستخدم في المجال العسكري بين الأفراد العاملين في السلك العسكري للتنسيق بين مختلف الوحدات العسكرية كالجيوش البرية والأساطيل البحرية.

ويصادف 13 من فبراير من كل عام اليوم العالمي للإذاعة المسموعة الذي حدَّدته المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ودَعَتْ دول العالم إلى الاحتفال بهذه المناسبة منذ العام 2013م، ويرجع هذا الاختيار إلى اليوم الذي بدأ فيه أولُ بثٍّ إذاعي للأمم المتحدة عام 1946م، وتهدفُ اليونسكو من خلال هذه الاحتفالية إلى تذكير شعوب العالم بأهمية هذه الوسيلة المهمة، ودورها الريادي في خدمة الإنسانية، ورفع المستوى الفكري والتوعوي للناس في مختلف أرجاء المعمورة، كما تهدف المنظمة الدولية من وراء تحديد يوم عالمي للراديو إلى التنسيق والتعاون بين الإذاعيين الذين يعملون في مجال الإذاعة؛ لتبادل الخبرات بين مختلف المؤسسات الإعلامية في هذا النطاق، وتكمُن أهمية الراديو في قدرته الفائقة على جذب المستمعين في أرجاء العالم كافة من حيث وصوله إلى أكبر عددٍ ممكن منهم؛ إذ تشير الأرقام المنشورة مؤخرًا إلى أن 70% من سكان العالم يستمعون للإذاعة عبر أجهزة الراديو والهواتف المحمولة، في حين وصلت المحطات الإذاعية في مختلف دول العالم إلى أكثر من 44 ألفَ محطةٍ إذاعية. وهذا الانتشار الواسع لجهاز البث الإذاعي (الراديو) يعود إلى خمسينيات القرن العشرين عندما تمكن العلماء في الغرب من اختراع جهاز (الترانزستور)، ثم قامت شركة سوني اليابانية بشراء حقوق هذا الاختراع الذي قلب كل الموازين في عالم البث الإذاعي، فأجهزة الراديو كانت كبيرة الحجم، وغالية الثمن، وتتطلب توافر التيار الكهربائي، بَيْدَ أن هذا الإنجاز العلمي أتاح صناعة أجهزة راديو صغيرة، رخيصة الثمن لا يتجاوز سعرها بضعة دولارات، ويمكن حملها في الجيب، وتتم تعبئتها ببطاريات صغيرة الحجم. وتتميز الإذاعة المسموعة عن منافسها جهاز التليفزيون بمزايا عدة؛ فالكتابة الإذاعية بسيطة، وسهلة، وغير مُعقَّدة؛ ذلك أن العمل الإذاعي يحتاج إلى نص جيد، قوامه الجمل القصيرة، والكلمات الواضحة والمباشرة، والوصف الدقيق للأحداث، بعيدًا عن الجمل الاعتراضية، والمصطلحات المعقدة؛ إذ المستمع لا يمكنه أن يرجع إلى الكلمة غير المفهومة، والتي فوتتها أذنه؛ فالكاتب الإذاعي يخاطب حاسة السمع، وبشكلٍ عام فإن نجاح العمل الإذاعي يعتمد على ثلاثة عناصر هي: نص جيد، وصوت جميل، ومخرج يتمتع بلمسات فنية في الإخراج الإذاعي، في حين يتطلب العمل التليفزيوني أكثر من سبعة عناصر لتحقيق نجاحه، كالنصوص، والإخراج، والتصوير، والديكور، والإضاءة، والصوت...وغيرها، ففي تسعينيات القرن الماضي كان متوسط تكلفة الساعة البرامجية في تليفزيون سلطنة عمان أكثر من ألف وثمانمائة ريال عماني، في حين كان متوسط تكلفة الساعة في الإذاعة أقل من مائة ريال عماني. ويعود التاريخ الرسمي لإذاعة سلطنة عُمان إلى عهد النهضة العمانية، حيث تم شراء محطة إذاعية صغيرة على عجل من إمارة الشارقة، بعد أيام من تولي السلطان قابوس -طيب الله ثراه- مقاليد الحكم في البلاد، وكانت هذه الإذاعة التي تنطلق من معسكر بيت الفلج التابع للجيش العماني تُدار من قبل أفراد الجيش؛ لعدم وجود كوادر إعلامية متخصصة وقتئذٍ، ويُنظَر إلى هذا المشروع الإعلامي المتمثل في الإذاعة الصغيرة التي لا تزيد قوتها عن كيلو وات واحد كأول مشروع تنموي تنفذه الحكومة الجديدة في السلطنة، ويعكس هذا الاهتمام إيمان القيادة العمانية بدور وسائل الإعلام في التوجيه والإرشاد والعمل كهمزة وصل بين الحكومة والمجتمع، خاصةً في تنفيذ الأهداف التنموية التي تسعى لتحقيقها القيادة الجديدة في البلاد آنذاك؛ فالمواطن العماني الذي حُرِمَ من التنمية مدةً طويلة بحاجةٍ إلى إعلام إذاعي توعوي، يُعرِّفه بأهداف الحكومة الجديدة، لكي تتضافر جهود المواطن مع الحكومة لنقل عمان من ظلام العصور الوسطي إلى رحاب النهضة العمانية المتجددة. وبالإضافة إلى إذاعة مسقط، فقد تم افتتاح إذاعة أخرى ذات طابع محلي في ظفار بتاريخ 22 ديسمبر 1970م، إذ كانت تلتقط في محافظة ظفار والمناطق المجاورة لليمن، وقد ركزت إذاعة ظفار على الأحداث المحلية، خاصة أخبار الحرب التي شهدتها المنطقة في بداية السبعينيات من القرن العشرين؛ حيث كانت الإذاعة تخصص برامج محلية لأبناء الأرياف في ظفار، ومن القصص التي لم يُكشَف عنها إلى الآن، ويرويها بشكل خاص العاملون في الإذاعة في ذلك الحين الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له إذاعة ظفار في أحد الأيام؛ مما أدى لتوقف البث لبضع ساعات خلال السنوات الأولى لإنشائها؛ وذلك من قبل المناوئين للحكومة. وعلى الرغم من عدم تمكُّن المواطنين من اقتناء الراديو دون ترخيص في عهد السلطان سعيد بن تيمور، إلا أنَّ هناك روايات تتحدث عن وجود محطة إذاعية صغيرة تبلغ قوتها نصف كيلو وات في قصر العلم بمسقط، وكانت هذه الإذاعة تلتقط في مدينة مسقط القديمة، كما تذكر الروايات أيضًا وجود محطة إذاعية صغيرة في مدينة صلالة، إذ كانت تتخذ من قصر السلطان بالحصن مقرًّا لها، وكان البث يغطي أحياء الحافة وصلالة والحصن المجاور للقصر فقط. لقد ارتبط العمانيون بالإذاعة منذ عقود طويلة؛ كونها الوسيلة الثقافية الوحيدة للناس؛ فكان امتلاك جهاز الراديو يوحي بالمكانة الاجتماعية الرفيعة، إذ يجتمع الناس مساءً عند الشيخ أو الرشيد للاستماع إلى الراديو، ومن أشهر الإذاعات المسموعة في عُمان قبل عقد السبعينيات: إذاعة لندن، وإذاعة صوت الساحل، وإذاعة صوت العرب من القاهرة، والتي كانت تتميز بخطابها القومي الناصري، والهجوم على الأنظمة الملكية العربية، بصوت الإعلامي الشهير أحمد سعيد وبرنامجه المثير للجدل "أكاذيب تكشفها حقائق"، وقد كشفت الدراسات الإعلامية احتلال السلطنة لموقع الصدارة خليجيًّا وعربيًّا في انتشار الإذاعة وقوة شعبيتها بين العُمانيين؛ إذ بلغت نسبة أجهزة الاستقبال الإذاعي في السلطنة 645 جهاز استقبال إذاعي لكل 1000 نسمة. وعالميًّا، استخدمت معظم الدول الكبرى الإذاعات الموجهة لتحقيق أهدافها الاستعمارية في السيطرة على الشعوب منذ فترةٍ مبكرة، فكانت البداية من مملكة هولندا التي وجهت أول بث إذاعي إلى إندونيسيا التي كانت حينئذٍ خاضعةً للاستعمار الهولندي، ثم تبعتها كلٌّ من بريطانيا التي وجهت برامجها إلى الهند والدول العربية وشرق آسيا، وفرنسا التي بثت إذاعاتها إلى مستعمراتها الإفريقية والعربية والآسيوية. أما الاتحاد السوفيتي، فقد استخدم الراديو لنشر الفكر الشيوعي عبر العالم من خلال خمسين إذاعة موجهة باسم "راديو موسكو" بمختلف اللغات العالمية. وعربيًّا، كانت أول إذاعة موجهة من الخارج للوطن العربي إذاعة "باري" الإيطالية التي كانت تحرِّض العرب على الثورة ضد الإنجليز والفرنسيين، في ثلاثينيات القرن العشرين قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ كانت إيطاليا توزع أجهزة راديو مجانًا على المقاهي التي يجتمع فيها الناس في القاهرة ودمشق وبيروت للاستماع إلى المذيع العراقي يونس البحري، الذي اشتهر بخطابه الناري الذي يشبه اليوم مذيع برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة فيصل القاسم.

وفي الختام، وبمناسبة اليوم العالمي للإذاعة، ندعُو من هذا المنبر اليونسكو -ممثلةً بمكتبها الإقليمي في بيروت- إلى إقامة ملتقيات وورش عمل تدريبية للعاملين في القطاع الإذاعي بدول مجلس التعاون، وذلك لغياب مراكز متخصصة في التدريب الإعلامي بالمنطقة، فقد تم إغلاق مركز التدريب الإذاعي والتليفزيوني التابع للأمانة العامة لدول المجلس ومقره الدوحة، كما تمَّ إلغاء مركز التدريب الإعلامي الوليد في السلطنة، والذي صدر مرسوم سلطاني بإنشائه قبل ثلاث سنوات، وتم استبداله بمركز التدريب في مكتب وزير الإعلام، لكن لم يتم تفعيله حتى الآن.