صار الناسُ سُكارى

اليمامة بنت سالم الكلبانية *

Alyamamasalim878@Gmail.com

 

ليست الغربة غربة الوطن، ولكن الغربة هي غربة الفكر، الغربة بين الحقيقة والواقع. قد نستند إلى حُجج واهية تُزين لنا طريقاً ظاهره خير، وباطنه شر. وقد نتطلع إلى أبواب مطامعها زائلة، وقد نبني صروحاً أساسها متين، وأسوارها أخلاق فاضلة.. ولنا في ذلك شواهد كثيرة:

من عُمق الأديان نحن نعلم أن الرشوة وضاعة أخلاقية، لا يتصف بها إنسان سوي، وليس لها شكل واحد كما يفهمه الناس، فالمُتعارف عليه هو المال مقابل تنفيذ عمل لصالح المستفيد. ولكن الرشوة لها تفاصيل أكبر من ذلك، مثل: الهدايا، القهوة، العزيمة، تقديم خدمة قبل أوانها أو تحقيق مطلب غير مُستحق، أو منح أي من الحقوق العامة كشكل من أشكال التحفيز لموظف قدم سلوكاً وضيعاً.. بكل بساطة هذه الخدمة قُدِّمت كمُقابل لخدمة أخرى، والخدمتان رشوة أخلاقية غير مستحقة لكلا الطرفين.

فليس من حق الراشي أن يجُود بحقٍ عام كمكافأة لشخص خان الأمانة، وليس من حق المرتشي أن يستبيح حرمات الناس، ويخدم شخصا آخر مقابل التعاطف، أو الهدايا، أو المناصب، أو المال. فالوجه الحقيقي وراء هذه المنحة هو التعدي على شخص آخر، أو سلب حق عام.

ليس من الإنصاف أنْ تستفز شخصًا بفعل أو قول، ثم تحاسبه على ردة فعله. أنْ تكون أميناً مع نفسك خدمة تلتحفها طوال عمرك. قد يتبادر إلى ذهنك أنك لم تؤذِ أحداً بفعلك أو قولك، لكنَّ لحظات التأمل الذاتية قد تُعيد إلى نفسك السكينة عندم تعلم أنَّك المخطئ أولاً، ثم ثانياً، ثم ثالثاً، وأن الباقي كان مجرد ردود أفعال جاءت نتيجة للخطأ الذي لم يُحرك سكينتك، ولم يُقلق جفنك.

هناك قاعدة دينية تقول "لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه". ماذا لو أحببت الكرامة لأخيك الذي أهنته؟ ماذا لو حفظت حق أخيك الذي غدرته؟ ماذا لو اعتذرت لأخيك الذي أغضبته؟! أليس هذا الذي تنتظره؟! فأعلم أن الله يمنع عنك حتى تعود لسريرة نقية تستحق فيها أن يُصان حقك الذي أضعته في ملفات غيرك.

عندما تقف الشهود معك وأنت ظالم؛ فاعلم أنك قد حملت وِزرهم ووِزر من عمِل عَملهم. ولا يكفي كدليل على أنك بريء. باختصار؛ لأنك تعلم الحقيقة، وهم لا يعلمون، ولا شهود على النوايا إلا الله. فلا ريب أنك تتعثر بانتشاء النصر، وقلبك مُفحم بهزيمة إلهية تبدو كعين الشمس الحارقة في ظهر صيف حار.. لكن هل تظن أنك اشتريت قلوبَ الشهود مع أقلامهم؟

انتظر.. هناك كاتب عن يمينك، وكاتب عن شمالك هم يعلمان تفاصيل الأقلام التي تتوارى عن الناس، أما عن قلوب الشهود فلا أظن يوماً أنهم سيأمنون غدرك. ببساطة لأنهم قرأوا فحوى عبيرك. كل الفراشات كانت تجامل النار؛ لكنها عادت إلى الربيع عندما أحرقها اللهيب.

كثيرون يتفيأون ظِلال المناصب العارية، ويُغيرون ألوانهم حسب قمصانها كل يوم، ما بين هذه الظلال، والقمصان ألوان قاتمة كئيبة لن تروقكم إلا إذا أصبحتم من فئة "رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ".. يبقى النفاق نفاقاً، ويبقى الكذب كذباً، وتبقى مخالفة الحقيقة زوراً، حتى لو كان حرف جرٍّ في جُملة عابسة.

لا أعلم إلى أين المسير، ولكن يُجمع الجميع على شيء لا إجماع فيه، ويخل الجميع بشيء لا يستساغ الخلل فيه، ويُمحى البريء دون ذنب صريح، بل ويتجنى الجاني على من لا ذنب له، ويتهجم الوقح فيطلب اعتذاراً، ويضحك من في قلبه كلمٌ، ويبكي من لا يعرف الألم، وينتشي من قام بالذنب، ويشتكي من كان في قمةِ الزلل

هنا فقط، يكون الناس سُكارى وهم ليسوا بسُكارى.

 

* معلمة بمدرسة أسماء بنت الصلت

تعليق عبر الفيس بوك