قلمي سقط في فنجان!

على بن سالم كفيتان

كنتُ متأهباً لكتابة مقالي الأسبوعي، وخاصة بعد نشوة الأسبوع الماضي؛ حيث دخل المقالان اللذان كتبتهما ضمن قائمة "الأعلى قراءة"، بتوفيق من الله، ثمَّ بدعم قرائي الكرام. وكعادتي أكتبُ بالقلم الرصاص لعدة أسباب؛ منها إمكانية المسح بمؤخرة القلم ما خطه رأسه المسنون، إضافة لحنين الماضي الذي يقودنا لا إرادياً لقضم بعض أجزاء الحطب للاستمتاع بطعم الخشب المُر ورائحته النفاذة التي تعودنا عليها منذ الصغر ولم تُغادرنا في الكبر، فظلت أقلامنا تعاني من تشوهات أزلية، رغم محاولات الترميم اللاحقة عبر دخول "البراية" على الخط، لتقوم بتسنين نهاية القلم، فيُصبح القلم برأسين، لكنه فقد ميزة المحاية.. وهكذا هي خياراتنا لبقية العمر، ما عطب منك عليك بتسنينه جيدًا وإدخاله في خانة أخرى، لا أزعم أن أقلامنا حادة، لكنها بلا شك من الرصاص!

أمام هذا الموقف سقط قلمي في كوب الشاي، وانغمس نصفه الأعلى في ذلك المشروب الرائع، حاولت السباحة في الفنجان لإنقاذ قلمي، لكنه ذهب بعيدًا وتشرب بذلك المحلول السكري الجميل، فانتفخ رأسه إلى الضعف.. نشفته ببعض المناديل، لكنه ظل ينزف بقايا الشاي! وكلما سلمته للورقة البيضاء الناصعة بللها وتغير لونها، لتأخذ لون الشاي البرونزي، فقلت في نفسي لا بُد من تجفيف القلم، علَّه يُساعدني في نقل هذه العاصفة التي تدور في مخيلتي للناس. وأمام هذه الحيرة التي لاحظها النادل، أتى مسرعاً، وسلمني قلم حبرٍ كان يضعه خلف أذنه لكتابة طلبات الزبائن، في البداية اعتذرت له بأدب، لكنه ألح، فقلت: "نكتب اليوم بقلم النادل حتى يتعافى قلمي الرصاص من وعكته الفجائية".

جردتُ قلم النادل من قبعته، وأطلقته على الورقة، فانساب الحبر الجميل على كل أنحاء القرطاس، ولم أعد أتحكم في تزحلقه المتهور، فطال كل أرجاء ورقتي المسكينة التي تعودتْ على صرير قلم الرصاص وحك المحاية. وبقلم النادل أبحرتُ بعيدا، واستلهمتُ الكثير من الأفكار التي كانت غائبة عن ذهني، أسقطتها جميعاً وأنا في عجلة من أمري، لكي لا أنسى منها شيئاً؛ فالوحي لا يأتي دائماً، وعليك استثمار تدفق الحبر أثناء الإعصار قبل أن تأتي العاصفة الهوجاء وتمسح ما كتبت.

ظل الصراع هو سيد الموقف بيني وبين قلم النادل في تلك الأمسية، فردمتُ من خلاله كل الحفر التي وجدتها طوال أسبوعٍ من العصف الذهني، وقلتُ في نفسي: "كم كنت ظالماً لها طوال الفترات السابقة من عهد الرصاص؟ فها هو عهد الحبر يصول ويجول ولا يعرف حدوداً". لم التفت لميزة أخرى في قلم النادل؛ فهو بعدة ألوان، ولك الخيار بأي قلم تشاء أن تكتب. أُعجبتُ بالأحمر، لكنه ظل فاقعاً يسُر الناظرين البسطاء، ولا يُرضي الوطنيين الجُدد الذين يرون فيه لون الخطر ورائحة الطوارئ، فعدلتُ عنه للون الأسود، إنه لون يرمز للحزن ويميل للتشاؤم، ذكرني بكل الذي مضى، فظل حبيس الذكريات المُرة، والوقفات الشجاعة لأناس لم يعودوا بيننا، فقررتُ الكتابة بلون السلام.. إنِّه الأخضر؛ كم هو مريح، لكنه مظلوم، تخيلت معه كل شبر من بلادي أصبح أخضر، وأنهار الغاز والبترول تجري في جداول من الرمال إلى البحر، لكنني أفقت على حلم لن يحدث قريبا، فعدت للون المفضل للنادل إنِّه الأزرق، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة هذه المرة بين أصابعي لكثرة الذين كتبوا به طلبيات الزبائن التي لا تنتهي.. فهل الكاتب كالنادل؟ ربما! ولكنه لا يحمل صحون التقديم، ولا يمتلك "إتيكيت" التقديم الراقي الذي يجيده هذا النادل الآسيوي الذي استحل فكري بقلمه الذي مات بين يدي.

وأنا أكتبُ كنت متشوقاً لقراءة ما كنت أكتب، فقد مرت عليَّ أفكار جهنمية قيدتها بحذر، وأوجدتُ لها الكلمات التي تتناسب مع قلم النادل، وأنا أقول في نفسي "سيحطم المقال كل التوقعات وسأحجز لنفسي هذه الزاوية المميزة في هذا المقهى الفارِه".. هنا يستطيع الجميع أن يقول إن هذه زاوية الكاتب فلان وقد يضعون صورتي وقد يأتي إليَّ الشباب والشابات التواقون للتوقيع على دفاترهم أو حتى إحدى إصداراتي، سأعيش جوًا نرجسياً، ولن أنسى النظارة الدائرية؛ فهي جزء من إكسسوارات الكاتب المُعتق، وفي لحظة التفتُ لما كتبت، فوجدتُ أنه عبارة عن طلبات الشاي والقهوة وقطع الكيك، إنِّه ليس خطي، لقد كان النادل هو من يملي ويكتب!

الأكثر قراءة